هل تعيد روسيا الغاضبة حساباتها؟

هل تعيد روسيا الغاضبة حساباتها؟

26qpt999

توالت التصريحات الروسية الغاضبة بعد إسقاط تركيا لطائرة قاذفة من طراز سوخوي 24 والتي بدأها الرئيس الروسي نفسه متوعداً أنقرة بعواقب جدية ومتهما إياها بـ»طعن روسيا في الظهر».
يدل رد الفعل السريع والمنفعل للرئيس بوتين على انزعاج شديد لأن إسقاط الطائرة يقول إن تركيّا أكدت واقعاً صلباً على موسكو أن تتعاطى معه، يعبّر هذا الواقع عن فشلها في لجم الأتراك الذي كانت تعمل على تثبيته من خلال محاولتها الاستمرار في انتهاكاتها لإقرارها كأمر واقع.
نشر روسيا لمنظومة صواريخ إس 400 في قاعدة حميميم العسكرية قرب اللاذقية وغاراتها العنيفة على المناطق المحاذية للحدود التركية ومجموعة الإجراءات العقابية الاقتصادية التي أعلنها رئيس الوزراء ديميتري ميدفيديف تمثّل أضلاع المثلث الذي كان الكرملين يأمل أن يجعل الحكومة والجيش التركيين يتحسبان بشدة من قرار مواجهة روسيا: 1- السيطرة المطلقة على الأجواء السورية، 2- التفوّق العسكري الوازن، 3- الحجم الهائل للتبادل الاقتصادي.
إسقاط الطائرة، بهذا المعنى، أوقف منظومة التهديد الروسيّة وجعل تهديداتها بلا معنى لأنه رفع في مواجهتها عناصر ذات ثقل كبير، فتركيّا هي عضو في حلف الأطلسي «الناتو»، والحرب العسكرية عليها ستترجم، مباشرة، حرباً مع هذا الحلف، كما أن العقوبات الاقتصادية ستؤدي إلى خسائر كبرى للجانبين.
الرئيس الأمريكي باراك أوباما، ممثّل القوّة القائدة في حلف «الناتو» ساند تركيّا مباشرة، وذلك في اليوم نفسه الذي كان يلتقي فيه الرئيس الفرنسي فرانسوا أولاند الذي جعلته العمليات الإرهابية في باريس راغباً في تحالف عالميّ جديد تشارك فيه روسيا فكان أن ردّه الأمريكيون، ومفاعيل المواجهة الروسية التركية، لتقبّل واقع صعوبة تجاوز الخلافات السياسية التي لا يمكن إلغاؤها بالمطلق بين موسكو وواشنطن.
إضافة إلى تثبيت هذا الواقع الجديد فإن حادثة إسقاط المقاتلة الروسية ساهمت في جلاء بعض الالتباس الذي بات يميّز السياسة الخارجية الغربية عموماً فيما يتعلّق بموضوع الحل السياسي في سوريا والحرب ضد «الدولة الإسلامية»، وهو التباس يلعب على فكرة أن روسيا شريك في الحرب ضد «الدولة الإسلامية»، وأنها «راغبة» في إقرار حل سياسي في سوريا.
والحال أن اشتراك روسيا في الحرب ضد «الدولة الإسلامية» هو «شرف» لا تستطيع ادعاءه، فهي صرّحت منذ البدء بالتزامها أهداف جيش النظام السوري، الذي اشتهر بانسحاباته الشهيرة من مواجهاته مع التنظيم المذكور، ومساهمته في كل ما من شأنه جعله خطراً إقليمياً وعالمياً، مستندا إلى منطق بسيط هو أن استفحال شأن «الدولة الإسلامية» (وقبلها «القاعدة») هو «طوق النجاة» السياسيّ للنظام وخطّ عودته معززا مكرّما إلى العالم المرعوب من سطوة الإرهاب المعولم.
التزام روسيا بالحرب على «الدولة الإسلامية» كان مرتبطا، بشكل صريح، بخطتها لتدعيم نظام الأسد، ولذلك لم ير العالم غير ضربات محدودة للتنظيم في الرقّة وتدمر والقريتين، كانت لذرّ الرماد في العيون كلّما تعالى الصياح من قصفها لقوّات المعارضة السورية المسلحة التي كانت وما تزال تحارب عدوّين في الوقت نفسه: النظام، من ناحية، و»الدولة الإسلامية»، من ناحية ثانية، وكان التدخل الروسي ثالثة الأثافي التي نشهد بعض فصولها في ريف اللاذقية الآن.
لا يقل زيف زعم حرب روسيا لـ»الدولة الإسلامية» عن زيف دورها في تحقيق حلّ سياسيّ ناجع في سوريا، وقد كشف هجومها الكبير على مناطق «جبل التركمان» و»جبل الأكراد» في ريف اللاذقية عن رغبتها في إجهاض الدور التركيّ – العربيّ في القضية السورية وصولاً إلى فرض «حل سياسي» روسيّ ـ إيراني يعيد الشرعيّة للأسد ونظامه، ويفرض استمراره في الحكم تحت ذريعة «الانتخابات»، غير أن وقائع المعارك على الأرض تعاكس هذا الوهم الذي لا ينفكّ يحصد آلاف الضحايا السوريين، ويهجّر موجات جديدة من اللاجئين.
روسيا الغاضبة الجريحة التي تريد أن تفرض مكانتها العالمية بقوّة عضلاتها العسكرية لا تفعل غير أن ترفع أمثولة البلطجة كأسلوب لفرض الحلول، وهو أمر أثبت التاريخ فشله المرة تلو المرّة.

رأي صحيفة القدس العربي