بينما يضاعف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الجهود في إطار حربه في أوكرانيا، بات استقرار نظامه على المحك. وتوقع بعض المراقبين أن يطاح بالرئيس الروسي، فيما يأمل آخرون أن تتفكك البلاد. وهذا يثير التساؤل عما إذا كانت روسيا قد تتشظى؟
إن الجغرافيا تجعل تماسك روسيا بعيد المنال. فهي تتمدد على 11 منطقة زمنية، وتع] الدولة الأكبر في العالم من حيث الكتلة الأرضية. وينتمي 20 في المئة من سكانها إلى شعوب أصلية محلية، وليسوا من أبناء الإثنية الروسية. وفي حين أن موسكو كانت قبل اندلاع الحرب في فبراير (شباط) بأسابيع قليلة ثالث أكثر مدن العالم ازدهاراً، حسب مؤشر ازدهار المدن الصادر عن برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية، فإن جزءاً كبيراً من شبه القارة السيبيرية فقير ويقطنه عدد ضئيل من السكان. وفي أقصى الشمال، تسود مدن صناعات المواد الخام، وهي مناطق آخذة بالتدهور. أما في الشرق الأقصى، فيرتبط السكان اقتصادياً بالصين واليابان وكوريا الجنوبية أكثر منهم بموسكو وسان بطرسبرغ. وفي ظل قيادة بوتين، تمركزت السلطة بشدة في موسكو وتم تقليص الاستقلال السياسي والثقافي الذي تمتعت به المقاطعات.
لم يكتف بعض المراقبين الغربيين بالتكهن في شأن انهيار روسيا، بل قاموا بالتحريض عليه معتبرين أنه يشتمل على حل لسلوك موسكو الدولي. ومع ذلك، فإن التفكك لن يحل “مشكلة روسيا” في الغرب. إن أي مستقبل إيجابي لروسيا وجيرانها مثل أوكرانيا، وكذلك لبقية العالم، سيتطلب من البلاد إعادة بناء نظامها الفيدرالي من الداخل، بدلاً من أن تنفجر.
الروابط التي لا تكون ملزمة دائماً
لروسيا تاريخ طويل مع قادتها الذين استخدموا مزيجاً من سياسة العصا والجزرة من أجل إبقاء المناطق النائية في البلاد موحدة. هكذا، وبينما منح القياصرة الاستقلال الثقافي لبعض الأمم المحتلة، فقد استخدموا طرقاً عنيفة لإجبار أمم أخرى على الاندماج. واتبع النظام السوفياتي قواعد اللعبة ذاتها، إذ احتفل أحياناً بالهويات القومية [المختلفة]، وعمد في أحيان أخرى إلى معاقبة وترحيل أولئك من يعتبرونهم غير مخلصين للمشروع السوفياتي.
لقد تأرجحت التوجهات بين فرض المركزية والمقاومة لتطبيقها في روسيا. هكذا شهدت البلاد في القرن العشرين فترتين فقط من اللامركزية النسبية، الأولى في عهد نيكيتا خروتشوف بين عامي 1953 و1964، والثانية بين عهد “بيريسترويكا” ونهاية ولاية بوريس يلتسين الرئاسية، أي من عام 1985 إلى عام 1999.
وبمجرد أن تولى بوتين زمام الأمور في عام 2000، أعاد بشكل تدريجي تأكيد سيطرة موسكو على المناطق والجمهوريات الروسية. ومنذ ذلك الحين، تسببت الفوارق الاجتماعية والاقتصادية المتزايدة بين المقيمين في المراكز الحضرية الغنية وسكان المناطق الريفية، في إثارة توترات. تستهلك موسكو والمنطقة المحيطة بها أكثر من نصيبها من ميزانية الدولة. وعلى العكس من ذلك، تسهم مناطق سيبيريا بما هو أكبر قيمة من الفائدة التي تجنيها. ولقد حشدت موسكو كثيراً من القوة، وفقدت المناطق البعيدة استقلالها البيروقراطي والمالي، ما أدى بدوره إلى تراجع التنمية الإقليمية. وينتقد القادة المحليون البيروقراطيين حتى في منطقة كراسنودار الموالية جداً لبوتين في جنوب روسيا، المقيمين في موسكو لأنهم يفرضون سياسات لا تتصل بالواقع على الأرض.
لا تطالب الأقليات العرقية في روسيا بصوت عال بالانفصال
إن رسم معالم خريطة روسيا العرقية يضيف طبقة أخرى إلى هذا التعقيد. ولا تشكل الجمهوريات العرقية الـ21 التي تتمتع بالحكم الذاتي في البلاد كياناً موحداً. ففي بعض المناطق، يهيمن أبناء العرق الروسي (في بعض الأحيان بأغلبية ساحقة. ويشكل هؤلاء، على سبيل المثال، ثلثي السكان في جمهورية بورياتيا السيبيرية الواقعة على بحيرة بايكال) بينما يكون وجودهم في مناطق أخرى نادراً (نحو ثلاثة في المئة في داغستان، التي تقع في جنوب روسيا). وما عدا استثناءات قليلة منها تتارستان الصناعية، لا تواجه هذه الجمهوريات كلها فقط التحديات الاقتصادية التي تربك المقاطعات النائية في روسيا، بل لديها أيضاً مظالم ثقافية. وهناك، على سبيل المثال، إحباط متزايد في هذه المناطق المتنوعة لغوياً بشأن هيمنة اللغة الروسية. وقد دعا ناشطون محليون إلى الكف عن تضمين كتب التاريخ المدرسية مقاطع الاحتفاء بالاندماج السلمي المفترض لأممهم في الامبراطورية الروسية. وطالب قادة السكان الأصليين في منطقة القطب الشمالي، بشكل صاخب بحقهم بالتعبير عن آرأئهم في كيفية استغلال شركات مواد الخام، مثل شركات النفط، للأراضي التي كانت يوماً لهم.
يمكن للحرب في أوكرانيا أن تؤدي إلى زيادة في الدعوات لنيل استقلال ذاتي أكبر عن موسكو. وقد أثارت التعبئة العسكرية في سبتمبر (أيلول) ردود فعل عنيفة في مناطق تضم أعداداً كبيرة من أبناء الأقليات العرقية التي تعرض مجندوها سلفاً إلى إصابات بمعدلات عالية في ساحات المعركة. و[دفع ذلك] حتى رئيس جمهورية الشيشان رمضان قديروف، الذي يصف نفسه بأنه جندي مشاة مخلص لبوتين، إلى إيقاف التعبئة في الشيشان، قبل غيره من القادة في المناطق الأخرى. وأعلن قديروف أن جمهوريته قد قدمت سلفاً المساهمة المطلوبة منها. وأصدرت زوجة المفتي الرئيس في داغستان إعلاناً مماثلاً في سبتمبر.
وقد تؤدي التغييرات الديموغرافية الأعمق أيضاً إلى تزايد في الدعوات لتطبيق اللامركزية. من بين 20 منطقة روسية ذات نمو سكاني إيجابي، هناك 19 منطقة تعيش فيها نسب كبيرة من الأعراق غير الروسية. وهذه هي الحال خصوصاً في داغستان والشيشان في شمال القوقاز وتوفا في سيبيريا. وفي ياكوتيا، الواقعة في شمال روسيا، تضاعف عدد سكان العاصمة الإقليمية ياكوتسك خلال الثلاثين سنة الماضية، وذلك بفضل هجرة شباب من العرق الياكوتي من المناطق الريفية إلى المدينة، الأمر الذي يجعل ياكوتسك المدينة التي تتمتع بأكثر مشهد حضري نابض بالحياة في روسيا لثقافة السكان الأصليين.
وعلى رغم أن المظالم التي يشتكون منها حقيقية، فإن الأقليات العرقية في روسيا لا تطالب بصوت عال بالانفصال. وتظهر استطلاعات الرأي أن الشعور الوطني الموالي للدولة الروسية قوي في الجمهوريات العرقية. ويمكن القول إن هؤلاء السكان سيدعمون الاستقلال حال بدأت الرمال بالتحرك في ذاك الاتجاه. ولكن من المرجح أن تستمر الأغلبية في هذه الجمهوريات بالنظر إلى روسيا كوطن لها وستكتفي بنيل مزيد من الاستقلال الثقافي والسياسي.
لا تأمل في التفكك
على رغم غياب الأدلة على وجود دعم من داخل روسيا للانفصال، فإن بعض صناع السياسة والمراقبين الغربيين أخذوا يبدون اهتمامهم بهذا الاحتمال. وقد أعلنت “لجنة الأمن والتعاون في أوروبا” The Commission on Security and Cooperation in Europe، وهي منظمة حكومية تعرف أيضاً باسم لجنة هلسنكي الأميركية U.S. Helsinki Commission وتضم بعض أعضاء مجلسي الشيوخ والكونغرس ومسؤولين تنفيذيين، أن إنهاء استعمار روسيا هو “واجب أخلاقي واستراتيجي”. وفي مايو (أيار) قدم كيسي ميشال، الصحافي المناهض لحكم الكليبتوقراطية (طبقة فاسدة مستبدة وقد تكون أوليغارشية)، حجة مماثلة في “ذي أتلانتيك” معتبراً أنه “يجب على الغرب أن يكمل المشروع الذي بدأ في عام 1991. ويجب أن يسعى إلى إنهاء استعمار روسيا بالكامل”. وطرح سيرج سومليني، الذي كان يكتب لـ”مركز تحليل السياسات الأوروبية” Center for European Policy Analysis، وهو مركز البحوث الموالي لحلف شمال الأطلسي (ناتو)، السؤال على النحو الآتي: “انهيار روسيا؟ إنها أخبار سارة للجميع”.
وانطلقت مشاعر مماثلة من بولندا وأوكرانيا. وأعرب ليخ فاليسا، حائز نوبل والرئيس السابق لبولندا، عن تأييده لانفصال “60 شعباً استعمرتهم روسيا” بحيث يتم تحويل روسيا إلى بلد يبلغ عدد سكانه حوالى 50 مليون نسمة (بدلاً من 140 مليون نسمة). وعقدت “عصبة الأمم الحرة” A League of Free Nations وكذلك “منتدى شعوب روسيا الحرة” Forum of the Free Peoples of Russia اجتماعات في دول وسط أوروبا. ودعت هاتان المجموعتان إلى “تحرير الأمم السجينة”، وهو توصيف يعود إلى كل من العهد القيصري عندما سخر المنشقون من روسيا واعتبروها “سجناً للأمم”، وأيضاً إلى “كتلة الأمم المناهضة للبلشفية” Anti-Bolshevik Bloc of Nations التي كانت ترعاها وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية خلال الحرب الباردة.
وكان أعضاء الأقليات الروسية وشخصيات المعارضة الروسية الذين يعيشون في المنفى يشكلون غالبية الأفراد الذين شاركوا في هذه المؤتمرات. وفي اجتماع عقد في براغ في يوليو (تموز)، نشر “منتدى شعوب روسيا الحرة”، على سبيل المثال، “إعلاناً حول إنهاء استعمار روسيا”، وأرفقه بخريطة لروسيا مقطعة الأوصال وقد تحولت إلى 30 جمهورية جديدة.
إن تفكك روسيا سيؤدي إلى نتائج كارثية على الأمن الدولي
لكن لا ينبغي لصناع السياسة الغربيين الوقوع في فخ الخلط بين التصريحات الراديكالية للسياسيين الذين يعيشون في المنفى وبين آراء المواطنين الروس التي تعد أكثر دقة. وسيكون من الخطأ أيضاً افتراض أن الأقليات المدعومة ستساعد تلقائياً في إقامة روسيا أكثر انسجاماً مع المعايير الغربية. فالأقليات العرقية ليست أكثر ميلاً للديمقراطية وحقوق الإنسان والحكم الرشيد والليبرالية الموالية للغرب من الغالبية الروسية.
إن التباين الثقافي الرئيس في روسيا ليس محصوراً بين أبناء الإثنية الروسية والأقليات، بل بين المناطق الحضرية الكبيرة وبقية أجزاء البلاد أي المناطق الصناعية البائسة، والمقاطعات الريفية، والجمهوريات العرقية. وأظهرت المدن الكبيرة في روسيا علامات متزايدة عن مشاركة المجتمع المدني [في حياة المجتمع] ووجود التعددية على مستوى القاعدة الشعبية خلال العقد الماضي، وحتى وإن كان هذا الاتجاه قد تعرض للقمع خصوصاً منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا. وعلى النقيض من ذلك، يميل سكان الريف والأقليات إلى أن يكونوا محافظين من حيث الأعراف الثقافية وأكثر دعماً للنظام الاستبدادي والأبوي. ومن المرجح أن تعارض الأقليات المسلمة حقوق الإجهاض، وقوانين الطلاق الليبرالية، والمساواة في مكان العمل، وحقوق مجتمع الميم، كما أن هذه الأقليات ستدين على الأغلب “الناتو” والولايات المتحدة بسبب سياساتهما في الشرق الأوسط.
إن تأييد انهيار روسيا يعد استراتيجية خاطئة، بنيت على نقص في المعرفة الكافية بما يربط أجزاء المجتمع الروسي بكل تنوعه مع بعضها بعضاً. والأهم من ذلك، أن مثل هذه الاستراتيجية لا تأخذ أيضاً في الاعتبار أن تفكك روسيا سيؤدي إلى نتائج كارثية على الأمن الدولي. ومن شأن انهيار روسيا أن يقود إلى نشوب حروب أهلية عدة. فالدويلات الجديدة ستتقاتل مع بعضها بعضاً على الحدود وعلى الأصول الاقتصادية. وسترد النخبة الحاكمة في موسكو، التي تسيطر على ترسانة نووية ضخمة، من طريق العنف على أي نزعة انفصالية. وسوف تسحق الأجهزة الأمنية ووكالات إنفاذ القانون أي محاولات لإرساء الديمقراطية إذا كان ذلك يعني تكرار عملية تفكيك الاتحاد السوفياتي. وعلى رغم أن إنهاء الاستعمار يبدو كأنه تحرير، إلا أنه من الناحية العملية من المرجح أن يدفع روسيا بأكملها ومناطق الأقليات العرقية إلى التخلف أكثر.
للتأكيد، تفكك روسيا ليس مرجحاً. غير أن النظام سيواجه في أعقاب حرب بوتين الكارثية ضغوطاً متزايدة من أجل تطبيق اللامركزية. وإن أفضل نتيجة ممكنة هي أن يصبح الحكم الذاتي المحلي حقيقة واقعة، علماً أن الدستور الروسي يضمن هذا الحكم ولكن بوتين قد ألغاه. إن إعادة توحيد روسيا في ظل نظام فيدرالي لن تكون ممكنة إلا إذا ترافقت مع عملية مراجعة وطنية لإرث الاستعمار الروسي. إن إعادة التقييم هذه ستكون مهمة للإثنية الروسية، وكذلك للأقليات. ولكن كما هي الحال في الولايات المتحدة وأوروبا، سيستغرق هذا التحول المجتمعي عقوداً. ومع ذلك، فإن الأمر يستحق المتابعة. فوحدها روسيا التي تطبق فعلياً اللامركزية سياسياً وثقافياً يمكنها إصلاح نفسها بشكل شامل لكل مكوناتها.
اندبندت عربي