يناقش ثلاثة خبراء كيف يمكن لواشنطن أن تحاول عملياً إبعاد طهران عن سعيها النشط للحصول على أسلحة نووية.
“في 13 كانون الأول/ديسمبر، عقد معهد واشنطن منتدى سياسي افتراضياً مع مايكل آيزنشتات، وماهسا روحي، وسوزان مالوني. وآيزنشتات هو “زميل كان”، ومدير “برنامج الدراسات العسكرية والأمنية” في المعهد، ومؤلف دراسته الجديدة: “استراتيجية التحوط النووية الإيرانية: تحديد حسابات الانتشار النووي في الجمهورية الإسلامية“. وروحي هي زميلة باحثة في “مركز البحوث الاستراتيجية” في “معهد الدراسات الاستراتيجية الوطنية” بـ “جامعة الدفاع الوطني”. ومالوني هي نائبة رئيس ومديرة “برنامج السياسة الخارجية” في “معهد بروكينغز”. وفيما يلي ملخص المقرر لملاحظاتهم”.
مايكل أيزنشتات
غالباً ما ركز نقاش السياسة الأمريكية بشأن البرنامج النووي الإيراني بشكل ضيق على الأبعاد الفنية لعملية الانتشار (أجهزة الطرد المركزي، فترات تجاوز العتبة النووية، التسلح النووي)، واعتمد بشكل أساسي على العقوبات والدبلوماسية لمنع النظام من حيازة سلاح نووي. غير أن التصدي للطموحات النووية الإيرانية بشكل فعال تتطلب فهماً عميقاً للاعتبارات السياسية والجيواستراتيجية التي تدفع الاستراتيجية الوقائية الخاصة بإيران، فضلاً عن اتباع نهج أكثر شمولاً يستخدم جميع أدوات القوة الوطنية ويؤدي إلى استمرار إيران في إرجاء اتخاذ قرار بشأن الملف النووي.
بدأت استراتيجية التحوط (الاستراتيجية الوقائية) الإيرانية تظهر عبر برنامج الأسلحة النووية (أثناء الحرب الإيرانية العراقية) من منتصف ثمانينات إلى أواخر تسعينات القرن الماضي. ثم اتبعت الجمهورية الإسلامية برنامجاً مكثفاً لبناء قنبلة (خطة “آماد”) من أواخر التسعينيات إلى أوائل القرن الحالي، أعقبه اتباع استراتيجية وقائية حذرة بدءاً من منتصف العقد الأول من القرن الحالي وحتى الوقت الحاضر. وقد اعتمدت إيران هذه الاستراتيجية عندما خلصت إلى أن المخاطر المحتملة والتكاليف المترتبة على تطبيق البرنامج المكثف كانت أكبر من المتوقع. علاوةً على ذلك، اختارت إيران وقف أجزاء من البرنامج النووي (2003) أو الرجوع عنه (2013، 2015)، عندما رأت أن هذه الأنشطة تُعرّض مصالح مهمة أخرى للخطر (تجنب العزلة الدولية)، أو عند قيامها بهذه الأنشطة أدّى إلى تحقيق أهداف أخرى (تخفيف العقوبات؛ إضفاء الشرعية على برنامج تخصيب اليورانيوم الخاص بها). ومع ذلك، حتى في هذه الحالات، استمرت إيران في تطوير البرنامج النووي بطرق أخرى.
وقد توفر الاستراتيجية الوقائية الغامضة والمتناقضة إلى حدٍ ما فرصاً للسياسة الأمريكية. على واشنطن أن تحاول إقناع طهران بأن السعي إلى تخزين المواد الانشطارية أو تجاوز العتبة النووية، أو إنتاج قنبلة (نووية) ستنطوي على مخاطر وتكاليف كبيرة، وبالتالي فإن كبح المجال النووي يصب في مصلحتها. وفي حين أن العقوبات القاسية والتهديد العسكري الموثوق ضرورية لتحقيق هذا الهدف، فقد لا تكون مثل هذه الإجراءات كافية. من الضروري أن تقوم الولايات المتحدة بصياغة استراتيجية تكييفية تستخدم أدوات أخرى للتأثير على حسابات إيران المتعلقة بالانتشار.
على سبيل المثال، يجب تذكير طهران بأن واشنطن قامت مراراً وتكراراً بإجراء تحولات جذرية في سياساتها المتبعة في الشرق الأوسط، إذ نفّذت عمليات عسكرية كبيرة بعد محاولة تجنب التعقيدات الناشئة هناك. كما يجب أن يفهم النظام أنه في ظل عجزه المُثبَت عن حماية علمائه النوويين أو منشآته أو أرشيفاته النووية من التخريب أو الهجمات الإلكترونية أوأجهزة المخابرات الأجنبية، لن يكون السعي إلى حيازة أسلحة نووية حكيماً، لأن هذه الأسلحة قد تتعطل عند الحاجة أو ينتهي بها المطاف في الانفجار داخل إيران. علاوةً على ذلك، قد يؤدي إنشاء قوة صواريخ مزدوجة الاستخدام (أي تقليدية ومسلحة نووياً) إلى تقويض الفائدة العسكرية التي تتمتع بها ترسانة الصواريخ التقليدية الإيرانية، وإلى زيادة احتمال سوء التقدير عند حدوث أزمة أو نزاع، مع اعتماد بعض الخصوم مثل إسرائيل موقف نووي يقوم على “الإطلاق بمجرد الإنذار”. أخيراً، أشار مسؤولون إيرانيون كبار إلى إحتمال تعرض إسرائيل لضربة نووية، لكن يجب تذكيرهم بأن بلادهم معرضة أيضاً للخطر بسبب معدّل تحوّلها المرتفع إلى الحياة في المدن، ومدنها المتضامة، والمركزية السياسية والاقتصادية والعسكرية لطهران.
باختصار، من الضروري بذل المزيد من الجهود لصياغة الحسابات الإيرانية المتعلقة بالانتشار النووي، في الوقت الذي تخصب فيه طهران كميات أكبر من اليورانيوم إلى مستويات أعلى من أي وقت مضى. وفي حال عدم بذل هذه الجهود، فلن يؤدي التقاعس سوى إلى النتيجة ذاتها التي كانت الولايات المتحدة تعمل على تجنبها منذ عقود.
ماهسا روحي
تقوم استراتيجية الردع الإيرانية على ثلاث ركائز أساسية هي استخدام طهران للوكلاء، وقوتها الصاروخية، وبرنامجها النووي. ويسهل الوصول على الفور إلى القدرتين الأولى والثانية ويتم استخدامهما حالياً، في حين يشكل برنامج الأسلحة النووية ركيزة طموحة وطويلة الأجل. ونظراً إلى قوة الركيزتين الأولى والثانية، لطالما كانت إيران مستعدة لكبح برنامجها النووي مقابل حصولها على منافع اقتصادية واستمرارها في الوقت نفسه في تعزيز قدراتها العسكرية التقليدية.
وليس لدى واشنطن العديد من الخيارات لكبح البرنامج النووي الإيراني على المدى القصير، لذلك يجب أن تركّز على تجنب التصعيد مع طهران وسط تحديات أخرى – بدءً من الاحتجاجات المناهضة للنظام التي تعكر صفو الجمهورية الإسلامية، إلى الحرب في أوكرانيا، وإلى نهوض الصين. وقد قامت الولايات المتحدة وإسرائيل بمحاكاة شن ضربات محدودة على المنشآت النووية الإيرانية، لكن طهران اتبعت استراتيجية ردع تركّز على التوضيح بأن ردها على هذه العمليات لن يكون محدوداً – بل سيؤدي إلى تكاليف باهظة للغاية للآخرين في المنطقة، إن لم يكن حرباً شاملة.
إن الرؤية القائلة بأن إيران يمكنها تطبيع العلاقات الاقتصادية مع الغرب في النهاية وتجنبها من أن تصبح دولة منبوذة قد اضمحلت تقريباً. فبعد انسحاب الولايات المتحدة من «خطة العمل الشاملة المشتركة» والفشل اللاحق في العودة إلى الإتفاق النووي، لا يعتقد قادة إيران أن التسوية النووية وتخفيف العقوبات سيوفران فوائد ملحوظة. وبسبب العقوبات الجديدة المرتبطة بانتهاكات النظام الأخيرة لحقوق الإنسان، فمن غير المرجح أن يكون تخفيف العقوبات ذات الصلة بـ «خطة العمل الشاملة المشتركة» كافياً لتبرير العودة إلى الإتفاق النووي. وهذه العوامل، إلى جانب عدم اليقين بشأن سياسات الإدارة الأمريكية القادمة، تعني أن إيران لن تتخلى عن النفوذ الذي اكتسبته من الردع الكامن – وفي الواقع، هناك حالياً دعم أكبر بين قادتها لامتلاك أسلحة نووية أكثر من أي وقت مضى.
وفي المرحلة القادمة، على الولايات المتحدة أن تحدد بوضوح العواقب الناتجة عن أي تصعيد إيراني إضافي أكان أفقياً (زيادة مخزونها من اليورانيوم) أم عمودياً (التخصيب للمستوى المطلوب للأسلحة النووية). وفيما يتعلق بالهجمات المحتملة على المنشآت النووية الإيرانية، يُفترض على نطاق واسع أن أي ضربة إسرائيلية من المرجح أن تكون بالترادف مع الولايات المتحدة، ولكن ليس من الواضح كيف قد يبدو مثل هذا الهجوم. على واشنطن اختبار طهران من خلال رسم خطوط حمراء ذات عواقب أقل أهمية في مناطق أخرى، ثم التصرف عند تجاوُز هذه الخطوط من أجل تقييم رد فعلها. وسيعطي ذلك صانعي السياسات الأمريكيين إمكانية فهم قيّمة، وفي الوقت نفسه يُعيد تدريجياً مصداقية الخيار العسكري.
سوزان مالوني
إن أهم جانب في النقاش النووي الحالي هو أنه لم يعد يركّز على «خطة العمل الشاملة المشتركة». فعلى مدى أكثر من عقدين، اتخذت السياسات الأمريكية بشأن القضية النووية الإيرانية منحًى دبلوماسياً، لكن الموضوعأصبح متحيزاً للغاية في واشنطن، لدرجة أن النقاش فقدَ محور تركيزه. ولا تزال الدبلوماسية هي الخيار الأكثر استحساناً، لكن لا يبدو أن إحياء «خطة العمل الشاملة المشتركة» مطروحاً في الوقت الحالي، لذلك يجب على صانعي السياسات البدء في البحث عن خيارات أخرى. وببساطة، تغيرت الأرضية في كلٍ من إيران والولايات المتحدة منذ أن زُرعت بذور «خطة العمل الشاملة المشتركة» منذ أكثر من عقد من الزمن.
على سبيل المثال، في حين قد لا تشكل الاحتجاجات المستمرة في إيران تهديداً وجودياً للنظام في الوقت الحالي، إلا أنها تؤثر على عملية صنع قراراته، من بينها قضايا السياسة الخارجية. كما للتحولات الجيوسياسية تأثير أيضاً. ويحقق تزايُد النفوذ الذي تتمتع به الصين وروسيا منافع مباشرة لطهران، حيث يوفّر لها بديل صالح عن الغرب على المستويين الاقتصادي والأمني. ولم يَعُد النظام مهتماً بإقامة شراكات تجارية أساسية مع الشركات الغربية ويعوّل على مستقبل اقتصادي يعتمد على الصين، ومستقبل أمني يعتمد على روسيا. وقد يكون ذلك رهاناً خاسراً في النهاية، لكن استعداد طهران بشكل متزايد للانخراط في أعمال عنف في الخارج – من بينها هجمات على المعارضين ومؤامرات ضد المسؤولين الغربيين – يُظهِر أنها لا تتفادى خطر التصعيد المتزايد.
بناءً على ذلك، من الضروري أن تضع الولايات المتحدة خطة بديلة قابلة للتطبيق، تستلزم توضيح خطوطها الحمراء واستعادة مصداقية التهديد باستخدام القوة العسكرية. ومع ذلك، يجب أن تتحلى بالواقعية بشأنقدرتها على صياغة حسابات النظام. وعلى الرغم من أنه يتعيّن على واشنطن أن تفضل سلوك الطرق الفرعية بدلاً من اللجوء إلى التصعيد، إلا أنها ينبغي أن تدرك أيضاً أن بعض مواقف القادة الإيرانيين بقيت غير متأثرة بالضغط أو الإقناع الأمريكي لسنوات عديدة. وأحد العوامل الرئيسية في صنع القرار لدى هؤلاء القادة هو ما إذا كانوا يعتقدون أن الولايات المتحدة أو إسرائيل على استعداد حقيقي للقيام بعمل عسكري رداً على تصعيد معين. ففي أعقاب انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان والتحول العلني إلى المنافسة الاستراتيجية، يبدو أن لدى إدارة بايدن رغبة ضئيلة، إن وُجدت، (للانخراط) في نزاع آخر في الشرق الأوسط. ومع ذلك، لا يزال يتعين عليها إثبات استعدادها لاتخاذ إجراءات إذا لزم الأمر.
وعلى الجبهة الداخلية، لم يكن البراغماتيون في إيران الذين قبلوا سابقاً «خطة العمل الشاملة المشتركة»، يؤيدون بالضرورة التخلي عن البرنامج النووي، إلّا أنهم رأوا ببساطة إمكانية تحقيق المزيد من الفوائد من خلال قبول الاتفاق. ومع ذلك، لا يبدو اليوم أن قادة إيران يخشون العزلة عن الغرب على الإطلاق. بل على العكس من ذلك، يبدو أنهم مرتاحون في إبقاء البلاد على عتبة التحوّل إلى دولة نووية، غير مستعدين للتخلي عن القدرات التي حققوها. وفي النهاية، فإن الردع الكامن يمنح النظام قدرة دفاعية ذات قيمة عالية إزاء ما قد تفرضه عليه القوى الخارجية.
معهد واشنطن