ثلاثة ملفات تهمين أكثر من غيرها على عمل وزير الخارجية الإيرانية حسين أمير عبداللهيان خلال الأشهر الثلاثة الماضية، وباتت تشكل الهاجس المحرك لكل تحركاته وأنشطته الدبلوماسية والسياسية وحوارته واتصالاته الإقليمية والدولية، وهذه الملفات هي الملف النووي والجهود التي يبذلها لإبقاء اتفاق فيينا حياً وإخراجه من الموت السريري الذي أدخل فيه نتيجة الشروط المتبادلة بين النظام في طهران والإدارة الأميركية، وما يرتبط به من أزمة ثقة بين إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية، والخلاف حول الآليات المطلوبة للإجابة عن أسئلة الوكالة المتعلقة بمصادر اليورانيوم عالي التخصيب في ثلاثة مواقع لم تكشف عنها إيران مسبقاً لمفتشي الوكالة الدولية.
الملف الأوكراني ومحاولة إبعاد التهمة عن طهران بالتورط في الحرب التي يشهدها هذا البلد نتيجة الحرب التي شنتها روسيا في فبراير (شباط) 2022، بخاصة بعد التقارير الاستخباراتية الغربية عن تزويد ايران لروسيا بالطائرات المسيّرة من نوع “شاهد 136” والتي لعبت دوراً بارزاً في سد النقص الذي عانته الترسانة الروسية بالأسلحة الاستراتيجية، فضلاً عن حديث أميركي عن نقل صواريخ إيرانية باليستية من نوع “فاتح 110” إلى روسيا، والتي تجعل إيران شريكاً في هذه الحرب إلى جانب موسكو، مما وضعها في مواجهة المجتمع الدولي وتحديداً الاتحاد الأوروبي ودول حلف الـ “ناتو” المعنية بتداعيات الحرب الأوكرانية.
وعلى رغم الدور الذي بذل أمير عبداللهيان كل جهوده لنفي أي تورط إيراني في هذه الحرب وتأكيد مساعي الحل السلمي لهذه الأزمة، فإن النشوة بالقدرات العسكرية لدى قيادة النظام ومعها القيادة العسكرية في حرس الثورة أفرغت جهود الوزير من صدقيتها، كما أن رد الفعل الدولي والموقف الذي اتخذته دول “ترويكا” الأوروبية وهي فرنسا وألمانيا وبريطانيا ومعها الولايات المتحدة، باعتبار هذا العمل خرقاً لقرار مجلس الأمن الدولي رقم (2231) الراعي للاتفاق النووي الذي يحرم على إيران نقل التكنولوجيا العسكرية إلى الخارج، وبالتالي إمكان اللجوء إلى تفعيل آلية الزناد التي تسمح بإعادة تفعيل العقوبات الدولية السابقة، ويندرج بعضها تحت البند (41) لميثاق الأمم المتحدة.
أما الملف الذي يتصدر سلم أولويات الوزير الإيراني فهو ملف العلاقات الإقليمية الإيرانية، وتحديداً العلاقة مع الدول الخليجية بعامة ومع السعودية بخاصة، فهذه الأولوية تبرز من خلال الاهتمام الذي يوليه عبداللهيان لهذه العلاقة والتي لا يترك مناسبة أو فرصة إلا ويستغلها لتأكيد ضرورة كسر الجليد وتهديم جدار عدم الثقة بين طهران وهذه الدول، على العكس من استراتيجية النظام والسلطة التنفيذية التي تضع العلاقة مع الجوار الجنوبي والشمالي من تركيا مروراً بمنطقة القوقاز ووصولاً الى روسيا ومروراً بآسيا الوسطى في مقدم اهتماماتها، كترجمة واضحة لسياسة “الانفتاح على الشرق” واعتبارها الآلية التي تسمح للنظام بالالتفاف على العقوبات الدولية وتكريس تحالف استراتيجية جديد على المستوى الدولي مع روسيا والصين، لبناء نظام دولي جديد يكون وريثاً للأحادية القطبية التي سيطرت ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي والمعسكر الشرقي أو “حلف وارسو”.
ومن يسمع عبداللهيان في المداخلة التي قدمها خلال المنتدى الثالث للحوار الذي استضافته الخارجية الإيرانية يوم الاثنين، 19 ديسمبر (كانون الأول) الحالي في طهران، يدرك حجم القلق الذي يسيطر على رأس الدبلوماسية الإيرانية من عدم النجاح في تحقيق خرق على خط العلاقة مع الدول الخليجية، والانتقال بالحوار مع السعودية إلى مرحلة تطبيع العلاقة وإعادتها لسابق عهدها، والرهان على عقد جولة سادسة تضع نقطة الختام لجلسات الحوار الخمس التي استضافها العراق بين الطرفين.
عبداللهيان يدرك جيداً أن تحقيق نتائج إيجابية في الحوار مع السعودية يشكل أرضية متينة لإعادة العلاقة الإيرانية مع المجتمع الدولي والعواصم الإقليمية، ويسمح لطهران باستخدامها ورقة قوة على طاولة التفاوض مع السداسية الدولية وخصوصاً واشنطن حول الملف النووي، فضلاً عن أن العلاقة مع الرياض تساعد على تكريس المعادلات الإقليمية في مناطق نفوذ النظام وفي الدفع لبناء نظام أمني إقليمي مشترك بينها وبين هذه الدول يخفف من الوجود الأميركي والضغط الذي يمارسه ويشكله على الاستراتيجية الإيرانية في الإقليم، أو على الأقل أن تكون صاحبة دور فاعل ومؤثر في المعادلة الإقليمية وسط الرؤية الأميركية لتخفيف تورطها المباشر في أزمات المنطقة.
ويبدو أن عبداللهيان لم يكتف بتكرار رسالته إلى القيادة السعودية والدعوة إلى إعادة العلاقات الدبلوماسية وتطبيع العلاقات الثنائية من طهران، بل حملها معه إلى “مؤتمر بغداد للحوار والشراكة الثاني” الذي استضافه الأردن في البحر الميت، ليسمع نظيره السعودي الأمير فيصل بن فرحان هذا الموقف مباشرة، ويعيد تأكيد أن “الحوار بين دول المنطقة من أجل التوصل إلى فهم مشترك وتحقيق الاستقرار والسلام والتنمية ليس خياراً بل ضرورة ملحّة”.
وفي الوقت الذي كان عبدالليهان يحرص على إيصال رسالة مختلفة لنظيره السعودي والدول المشاركة في المؤتمر، وأن إيران على استعداد لتعزيز التعاون مع الدول الإقليمية لتعزيز الاستقرار والأمن، مشيراً إلى أن طهران تؤكد “أننا لا نتوقع توجيه أي تهديد إلينا أو إلى دول الجوار الأخرى من الأراضي العراقية”، معقباً أن “عهد تبني السياسات الخاطئة ولّى وأن الأمن لن يتحقق من خلال نظرة إقصائية وصدامية”.
وكان قائد قوة القدس في حرس الثورة إسماعيل قاآني في طهران يسحب البساط من تحت أقدام عبداللهيان وينسف كل الجهود التي بذلها ويبذلها لخفض التوتر وترميم العلاقة بين إيران والمحيط والجوار العربي وإعادة العلاقة مع السعودية لمجاريها الطبيعية والقديمة، عندما شنّ هجوماً قاسياً على السعودية مستخدماً ألفاظاً وكلمات سوقية لا تنسجم مع الدبلوماسية الناعمة التي يستخدمها عبداللهيان، وكأن قاآني بما يمثله من مؤسسة عسكرية وذراع خارجية للنظام في الإقليم يسعى إلى إحراج القيادة السعودية والدبلوماسية الإيرانية على حد سواء من خلال التصويب على سياسات وزير خارجيته وإفهامه بأنه غير مخول في تحديد الأولويات الاستراتيجية للسياسة الخارجية للنظام من جهة، ودفع الجانب السعودي إلى الإعراض عن الدعوات التي يسمعها من عبداللهيان، بخاصة أن قاآني قد تجاوز كل حدود الأدب والدبلوماسية في الحديث عن السعودية.
هذا الموقف لقاآني يعيد للذاكرة ما حدث مع كبير المفاوضيين الإيرانيين عام 2007 علي لاريجاني الذي كان على بعد خطوات من التوصل إلى اتفاق مع منسق العلاقات الخارجية في الاتحاد الأوروبي خافيير سولانا في جنيف، عندما خرج الرئيس محمود أحمدي نجاد بخطاب في طهران رفض فيه أي اتفاق حول البرنامج النووي، ووصف قرارات مجلس الأمن الدولي بمجرد “قصاصات ورقية” لا قيمة لها، مؤكداً أن قطار البرنامج النووي يسير من دون فرامل إلى الأمام ولن يتوقف.
فهل هناك مراكز قوى داخل النظام لا تريد التوصل إلى تطبيع العلاقة مع السعودية وتعمل على تخريب الجهود الدبلوماسية التي تساعد في إخراج ايران من عزلتها والحصار الذي تعانيه؟ وبالتالي فهل على المجتمع الدولي تصديق النيات التي يعلنها عبداللهيان أم عليه البناء على المواقف التي تصدر عن قاآني والمؤسسة العسكرية باعتبارها الجهة التي تسيطر على القرار الاستراتيجي في النظام وتتحكم به؟
اندبندت عربي