مر عام 2022 على العراق حافلاً بالتطورات السياسية المهمة التي بدأت مع الانتخابات النيابية في أكتوبر (تشرين الأول) 2021، لتشهد البلاد بعدها سلسلة من الأحداث التي لم تخل من عنف وإسالة دماء، كان طرفاها مقتدى الصدر، زعيم التيار الصدري، وقيادات الإطار التنسيقي الذي يضم جميع الأحزاب والفصائل الشيعية الحليفة لإيران، ولم ينته الأمر بمخاض تشكيل الحكومة الجديدة.
منذ مطلع 2022 استمرت الأزمة السياسية التي أفرزتها نتائج الانتخابات البرلمانية العراقية، واستطاع الصدر في بدايتها النجاح بجلسة اختيار رئيس مجلس النواب ونائبيه، حيث تم انتخاب محمد الحلبوسي رئيساً للبرلمان لولاية ثانية وحاكم الزاملي القيادي في التيار الصدري نائباً أولاً له وشاخوان عبدالله القيادي في الحزب الديمقراطي الكردستاني نائباً ثانياً.
وعلى رغم محاولات الإطار التنسيقي ورئيس السنة محمود المشهداني تأجيل الجلسة التي عقدت في 9 يناير (كانون الثاني) 2022، إلا أن التصويت تم بكل سلاسة وأظهر الإطار التنسيقي كأقلية في مجلس النواب العراقي، قبل أن يتحول فيما بعد إلى الثلث المعطل ويفرمل كل تحركات الصدر لتشكيل حكومة أغلبية سياسية تستبعد أغلب قوى الإطار.
ومع تصاعد الأزمة دخلت إيران على الخط بزيارات عدة لقائد فيلق القدس في الحرس الثوري إسماعيل قاآني، التقى خلالها الصدر وكان الأخير رافضاً لأي مسعى إيراني لتشكيل تحالف مع الإطار التنسيقي، وكُشفت إعلامياً عن مضمون أحد اللقاءات وكيف تعامل الصدر مع مقترحات قاآني بنوع من البرود والتجاهل وعدم التجاوب معها.
وأصر الصدر على تشكيل تحالف لا يضم أغلب قوى الإطار التنسيقي، خصوصاً دولة القانون بزعامة نوري المالكي وعصائب أهل الحق وفصائل أخرى من الذين وصفهم بـ”الميليشيات الوقحة” وأسهب في الحديث عن الأزمات التي تسبب بها المالكي.
الأغلبية السياسية
وأدى تفسير المحكمة الاتحادية لمسألة انتخاب الرئيس من قبل البرلمان بأن يكون من خلال أغلبية الثلثين من الحضور إلى إضافة معرقل جديد نحو الإسراع في الانتخاب.
وعلى الرغم من محاولات الصدر لعقد جلسة انتخاب رئيس الجمهورية بالتحالف مع الحزب الديمقراطي الكردستاني وائتلاف السيادة الذي يمثل أغلب ممثلي السنة في العراق إلا أنه فشل في تحقيق النصاب، بعد تراجع عدد كبير من المستقلين عن تأييد مشروع الأغلبية السياسية الذي كان يطرحه الصدر لتشكيل الحكومة العراقية الجديدة.
وأعلن الصدر والبارزاني عن تحالف السيادة بزعامة كل محمد الحلبوسي وخميس الخنجر وتشكيل تحالف وطني وترشيح كل من وزير داخلية إقليم كردستان ريبر أحمد كرئيس للجمهورية والسفير العراقي في لندن جعفر الصدر كمرشح لرئاسة الوزراء، الأمر الذي رفضه الإطار التنسيقي والقوى المتحالفة معه خصوصاً الاتحاد الوطني الكردستاني والرئيس السابق برهم صالح الذي بذل جهوداً سياسية كبيرة لمنع حصول الحزب الديمقراطي الكردستاني على منصب الرئيس عبر التنسيق مع الإطار التنسيقي وبعض المستقلين الذين خلقوا في ما بعد الثلث المعطل، لجعل النصاب غائباً عن أية جلسة تحدد لانتخاب الرئيس.
الصدر مستمر
وحاول الصدر استمالة بعض قوى الإطار التنسيقي لكسر الثلث المعطل الذي يشكله خصوصاً زعيم منظمة البدر هادي العامري الذي كان قريباً من إعلان اتفاق مع الصدر وبعض القوى في الإطار على تشكيل حكومة، إلا أن رفض أغلب قوى الإطار والفصائل الشيعية لأي اتفاق يستثني أي جهة شيعية أفشل مسعى الصدر مجدداً.
ولم تفلح جميع محاولات الصدر في إقناع كثير من النواب المستقلين البالغ عددهم نحو 50 نائباً في التصويت إلى إيجاد النصاب الكامل لجلسة اختيار رئيس الجمهورية. لكن هذا الأمر لم يمنعه من استعراض الأغلبية داخل البرلمان العراقي من خلال التصويت على قانون الأمن الغذائي في مطلع يونيو (حزيران) الماضي كبديل عن الموازنة العامة التي يصعب تمريرها مع وجود حكومة تصريف أعمال.
واضطر الإطار التنسيقي للتصويت على القانون بعد تعديلات جرت تضمن مكتسبات سياسية له، تتعلق بعودة المنتهية عقودهم من عناصر الحشد الشعبي وملفات أخرى محدودة كان يطالب بتضمينها لتمرير القانون.
نفاد صبر الصدر
وبعد التصويت على قانون الأمن الغذائي ضمن أغلب المتابعين للشأن العراقي بأن الصدر ماض في مشروعه وأن الإطار التنسيقي سيتنازل ويقبل المشاركة في حكومة جديدة لا تضم كل أحزابه وفصائله، لكن ما حصل كان معاكساً لكل التوقعات والترجيحات وحتى مفاجئاً لحلفاء الصدر.
إذ أعلن الصدر في يونيو (حزيران) سحب نوابه من البرلمان العراقي وتعليق مشاركتهم في العملية السياسية في خطوة لم يتم تفسير أسبابها بشكل مقنع حتى الآن، فالتيار الصدري وقياداته عزت القرار إلى “رفض الصدر مشاركة الفاسدين في الإطار التنسيقي تشكيل الحكومة”، وهذا الأمر قد ينطبق على كثير من المشاركين في العملية السياسية داخل العراق لكون شبهات الفساد أصبحت تحوم حول جميع القوى السياسية من دون استثناء.
وعلى رغم محاولات القوى السياسية بإقناع الصدر بالعدول عن قراره إلا أن الأخير كان واضحاً خلال استقباله في النجف للنواب المستقلين برفض أي عودة للعملية السياسية بل رفض المشاركة في الانتخابات المقبلة إذا ما شارك فيها من سماهم “الفاسدين” في إشارة إلى بعض الأطراف الشيعية المنافسة التي توجد في الإطار التنسيقي.
الأقلية تصبح أغلبية
وفي غضون أيام استبدل بنواب التيار الصدري نواباً جدداً من الإطار التنسيقي وعدد جديد محدود من المستقلين ليصبح الإطار التنسيقي الكتلة السياسية الأكبر عدداً بنحو 140 نائباً.
ويبدو أن ترشيح الإطار لمحمد شياع السوداني لمنصب رئيس الوزراء وتأكيده على تشكيل حكومة وعدم إجراء انتخابات مبكرة استفز زعيم التيار الصدري وأنصاره الذين دخلوا على مرحلتين إلى مبنى البرلمان العراقي.
فالأولى دخلوا ليوم واحد وانسحبوا ثم عادوا إلى المبنى ليستمر اعتصامهم أكثر من 30 يوماً وبلغ مداه في أغسطس (آب) الماضي بمحاصرة مقر مجلس القضاء الأعلى داخل المنطقة الخضراء، الأمر الذي واجه انتقادات كبيرة من الجهات السياسية والبعثات الدبلوماسية، مما أجبر التيار الصدري على الانسحاب من محيط القضاء.
وفي الأيام الأولى لاعتصام التيار الصدري، حشد الإطار التنسيقي أنصاره للتظاهر في الجانب الآخر من المنطقة الخضراء بل وأرسل تعزيزات من الفصائل داخله لحماية بعض قياداته خصوصاً زعيم ائتلاف دولة القانون نوري المالكي الذي ظهر يحمل رشاشة أميركية الصنع ويتجول مع عناصر حمايته بعد حديث الصدريين عن قرب اقتحام مقره.
وأعلن رئيس مجلس النواب العراقي محمد الحلبوسي بعد اقتحام الصدريين للبرلمان تعليق العمل في الجلسات حتى إشعار آخر.
اشتباكات الخضراء
وفي نهاية أغسطس (آب) قرر التيار الصدري اقتحام المنطقة الخضراء بالكامل ودخل مناصروه إلى القصر الحكومي إلا أنهم اصطدموا بعناصر الأمن وأفراد من الميليشيات الشيعية وأسفرت المواجهات في بدايتها عن مقتل عدد من أنصار التيار الصدري قبل أن تتطور إلى معارك بالأسلحة الثقيلة وصواريخ الكاتيوشا داخل المنطقة الخضراء بين ميليشيات سرايا السلام وبين الميليشيات الموالية للإطار التنسيقي وأسفرت عن مقتل أكثر من 100 شخص قبل أن يدعو الصدر أنصاره إلى الانسحاب ووقف العنف داخل المنطقة الخضراء.
واعتبر الإطار التنسيقي ما حصل في المنطقة الخضراء نصراً للدولة العراقية وأشاد بعناصر الأمن والميليشيات الذين تصدوا لأنصار الصدر، معتبراً إياهم المدافعين عن الدولة العراقية ومؤسساتها الدستورية لإفشال ما سماه الإطار “الانقلاب”.
وعلى رغم محاولات رئيس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي إيجاد تهدئة عبر الدعوة إلى جلسات للحوار الوطني بين الصدريين والإطار التنسيقي والتي عقدت منها جلستان لم تتوصل أي منهما إلى نتيجة بسبب عدم حضور ممثل عن التيار الصدري في هذه الاجتماعات.
وعقد مجلس النواب العراقي نهاية سبتمبر (أيلول) أول جلسة له منذ شهرين عندما اقتحم أنصار التيار الصدري مبنى البرلمان في نهاية يوليو (تموز) 2022 الذي أعلن فيه تعليق الجلسات.
وشهدت الجلسة رفض استقالة رئيس مجلس النواب العراقي محمد الحلبوسي وانتخاب مرشح الإطار التنسيقي محسن المندلاوي الذي يعد من السياسيين ورجال الأعمال، لمنصب النائب الأول لرئيس مجلس النواب.
اختيار رشيد والسوداني
وبعد سلسة من المفاوضات المطولة التي استمرت لنحو شهر تم الاتفاق على إنهاء أزمة انتخاب رئيس الجمهورية عبر مرشح تسوية تم الاتفاق عليه بين قوى الإطار التنسيقي والحزب الديمقراطي الكردستاني وتحالف السيادة وهو عبد اللطيف رشيد ليدخل المنافسة مقابل برهم صالح الذي تراجع الإطار التنسيقي عن دعمه.
وأدى غياب التيار الصدري عن المشهد السياسي إلى عودة النفوذ الواسع لزعيم ائتلاف دولة القانون نوري المالكي في تشكيل التحالفات السياسية والدفع ببعض الشخصيات للمناصب الحكومية وإعادة ما يسمى الدولة العميقة التي يقودها داخل المؤسسات بعد أن تم الحد منها خلال حكومتي عادل عبد المهدي ومصطفى الكاظمي.
واستطاع الإطار التنسيقي وخصوصاً بعد سلسة مفاوضات أجراها المالكي، تشكيل تحالف إدارة الدولة مع حلفاء الصدر السابقين في تحالفي السيادة والديمقراطي الكردستاني ليكون مسؤولاً عن انتخاب الرئيس وتكليف رئيس الحكومة وتشكيلها، ونجح في عقد جلسة تم فيها اختيار رشيد بأغلبية واضحة وتكليف محمد شياع السوداني بتشكيل الحكومة العراقية الجديدة.
ولأول مرة منذ عام 2003 يغيب رئيس سابق عن مراسيم التسليم والتسلم لمنصب رئيس الجمهورية، حيث غاب برهم صالح عن هذه المراسيم التي أقيمت بمقر الرئاسة في قصر السلام بمنطقة الجادرية وسط بغداد.
وحظي تشكيل حكومة السوداني التي صوت لها البرلمان العراقي بأغلبية كبيرة في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) من عام 2022 على تأييد دولي ومحلي عراقي كبير لم يترك المجال للتيار الصدري لاعتراضات واسعة كما كان متوقعاً، خصوصاً مع الأزمات المعقدة التي يعيشها العراق.
اندنبندت عربي