اختار منفذ عملية المركز الثقافي الكردي في باريس، مناسبة عيد الميلاد التي تحظى باهتمام خاص، بوصفها أبرز الأعياد العائلية، ويجري الاستعداد لها على مدى شهر ديسمبر/كانون الأول، لاستقبال “بابا نويل” في ليلة الرابع والعشرين منه، حاملاً هداياه للصغار والكبار.
وفي الوقت الذي كانت الاستعدادات في طور الاستكمال يوم الثالث والعشرين، ذاع نبأ عملية الهجوم بالرصاص الحي في الدائرة العاشرة داخل منطقة سانت دوني، والتي قام بها فرنسي يدعى “وليم إم” صاحب سوابق يبلغ من العمر 69 عاماً، على المركز الكردي المعروف باسم المغني الكردي الراحل أحمد كايا، فقتل شخصين وجرح ثالث تمكن من اللجوء إلى صالون حلاقة يرتاده أكراد.
واستمر الجاني بإطلاق النار، موقعاً عدداً من الجرحى، قبل أن تتم عملية السيطرة عليه من قبل الشرطة، التي وجدت بحوزته 45 رصاصة صالحة للاستخدام، ما يعني أنه كان ينوي تنفيذ مجزرة كبيرة.
كانت الحصيلة مقتل ثلاثة أشخاص وجرح ثلاثة آخرين كلهم من الأكراد. ومن بين القتلى قيادية كردية تدعي أمينة قارا وهي المسؤولة عن “حركة النساء الكرديات” في فرنسا، التي تعد جزءاً من “المجلس الديمقراطي الكردي”. وشاركت المذكورة في الحرب ضد “داعش” في الرقة ضمن “قوات سورية الديمقراطية” (قسد). والقتيلان الآخران، اسماهما مير برفير وعبد الرحمن كيزيل، الأول منهما مغنٍ كردي، والثاني غير معروف.
الجالية الكردية في فرنسا غاضبة
أول ردود الفعل صدرت عن الجالية الكردية في فرنسا، التي لها حضور بارز في المنطقة من خلال أعمال تجارية. وما أن عرفت الأوساط الكردية بالنبأ، حتى نزلت تظاهرات إلى الشارع تهتف ضد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وتتهمه بالمسؤولية عن العملية.
الحكومة الفرنسية هزّتها العملية، فلم تتأخر في إنزال قوات مكافحة الشغب إلى شوارع حي إنغيان الذي وقعت فيه الجريمة، مخافة وقوع صدامات مع الجالية التركية التي تمارس نشاطات تجارية في المنطقة ذاتها. وعلى الفور، قام وزير الداخلية جيرارلد دارمانان بتفقد المنطقة، وأدلى بتصريحات كان يريد منها تهدئة الغضب الكردي الذي كان يتصاعد بسرعة شديدة، ولكن النتائج جاءت عكسية.
كان المتظاهرون الأكراد يريدون وصف الجريمة، وتصنيفها في خانة الإرهاب، لأنها استهدفت قيادات كردية. لكن الوزير أعلن أنه ليس لديه أي معطيات تقود إلى توجيه التهمة لتركيا، كما أن المعلومات المتوافرة لدى الأجهزة الفرنسية تؤكد أن الأكراد غير مستهدفين على وجه التحديد، وقال إن مطلق النار “استهدف أجانب بوضوح”.
تركت الجريمة صدمة كبيرة. وأول الأطراف التي هزّها الأمر هم الأكراد الذين لم يتقبلوا الرواية الفرنسية، التي بقيت متمسكة بالطابع العنصري للعملية. وهذا الموقف شاركته أطراف يسارية فرنسية اعتبرت أن ما حصل هو نتيجة طبيعية للتساهل الرسمي مع الخطاب العنصري، الذي ازدادت وتيرته للتحريض على الأجانب.
الحكومة واليمين المتطرف قلقان
وظهر القلق على اليمين المتطرف الذي يحرض ضد الأجانب، وخصوصاً الهجرة المغاربية والمسلمين. وانعكس ذلك من خلال ارتباك قناة “سي نيوز” الإخبارية المملوكة لرجل الأعمال المحافظ فانسان بولوريه، التي باتت خلال الأعوام الأخيرة المنبر الرئيسي لليمين العنصري، وهي التي أتاحت للمرشح الرئاسي صاحب أطروحة “الاستبدال الكبير” أريك زيمور، أن يروج لخطابه العنصري.
بقيت هذه القناة تتحدث عن احتمال قيام الأجهزة التركية بالعملية، وقدمت تحليلات، واستضافت خبراء من أجل تعزيز هذه الفرضية. وهدف القناة من وراء ذلك ليس الدفاع عن الأكراد كما أرادت أن تصور خطابها، بقدر ما هو إبعاد الشبهة عن اليمين المتطرف، ومخافة أن تتوجه الأصابع نحوها، بعدما اعتبرها مثقفون وساسة فرنسيون منصة لخطاب الكراهية، والتحريض على الأجانب.
يعد اليوم الثاني لوقوع الجريمة محطة مهمة لأنه شهد مواجهات عنيفة بين متظاهرين أكراد، وقوات الأمن الفرنسية التي أصيب قرابة 40 فرداً منها بجراح. ورغم أن الطرف الكردي الذي نظم التظاهرة تعهد بأن تكون سلمية، ومن أجل التعبير عن مشاعر الحزن تجاه مقتل ثلاث شخصيات كردية، فإن الصدامات بدأت بعد نحو نصف ساعة من بدء التجمع.
كان من الواضح أن هناك حشداً كبيراً من قبل الجاليات الكردية في أوروبا، وتحدثت الأوساط الرسمية الفرنسية عن قدوم عدة آلاف من ألمانيا وبلجيكا ومدن فرنسية أخرى. وكانت الصورة الوحيدة في التظاهرات لزعيم حزب العمال الكردستاني السجين في تركيا عبد الله أوجلان. وهذا الحزب تعتبره دول أوروبية عدة حزباً إرهابياً، لكنه ينشط بصورة علنية، وتصفه بعض الأوساط السياسية بالحليف في الحرب على الإرهاب، بسبب مشاركته في الحرب ضد تنظيم “داعش” في العراق وسورية.
عاد الهدوء مساء السبت إلى شوارع منطقة “لا ريبوبليك” في الدائرة العاشرة، ولكنها بدت مثل ساحة حرب، بسبب الأضرار الكبيرة في المحال التجارية والسيارات ورائحة الغاز المسيل للدموع، وقد نقلت قنوات تلفزة عدة حوالي ثلاث ساعات متواصلة هجمات شباب أكراد على قوات الأمن الفرنسية التي حشدت بكثرة.
ورغم التعاطف الذي لقيه الأكراد، فإن أحداث العنف أثّرت على صورتهم، خصوصاً أنهم لم ينتظروا نتائج التحقيق في الحادث، والتي يبدو أنها لن تظهر خلال وقت قريب، بعدما تمّت إحالة منفذ العملية من الاستجواب إلى العيادة النفسية للشرطة. ويعني ذلك أن المسألة ستبقى في إطار الجريمة العنصرية، خصوصاً أن وسائل الإعلام نقلت عن الأوساط الرسمية اعتراف المنفذ بأنه ارتكب الجريمة بدوافع عنصرية.
هناك رأي يعتبر أن هناك مصلحة رسمية في تسجيل الجريمة على أنها حادث عنصري فردي
وأكد هذا الاتجاه التصريح الذي صدر عن وزير العدل الفرنسي إريك دوبوند موريتي بعد ظهر أول من أمس السبت، بأن “شرط اعتبار العملية إرهابية هو أن يكون المنفذ ينتمي إلى أيديولوجية، ويتم تبني العملية”، وهذا جرى التعامل معه على أنه من قبيل الكيل بمكيالين. فالدولة لم تتريث على هذا النحو في مناسبات سابقة، عندما تعلق الأمر بارتكاب أعمال كان ضحاياها فرنسيين.
هناك رأي آخر يعتبر أن هناك مصلحة رسمية في تسجيل الجريمة على أنها حادث عنصري فردي، وأن منفذها مختل عقلياً. ولذلك أسباب عدة. الأول التغطية على التقصير الأمني والقضائي، فيما يخص الإفراج عن المنفذ في الثاني عشر من الشهر الحالي، بعد أن كان ارتكب جريمة اعتداء بالسيف على مخيم لاجئين في باريس في 8 ديسمبر 2021، وجرح اثنين من الجنسية الصومالية.
والسبب الثاني هو أن تبعد السلطات الرسمية عن نفسها مسؤولية التساهل مع الخطاب العنصري، بعد أن بدأت ترتفع أصوات سياسيين ومثقفين تتحدث على أن ما حصل يجري في إطار حرب، يقودها اليمين المتطرف ضد الأجانب. وحتى الآن كانت الحسابات الرسمية ترى المسألة من منظور أمني فقط، ولكن الاعتداء على الجالية الكردية قلب المعادلة، وأظهر أن الوضع يتطور نحو الأسوأ.
وبحسب وسائل إعلام فرنسية، استقت معلومات من الشرطة، فإن الجاني تعمد استهداف المركز الثقافي الكردي، وأنه كان يريد قتل أكراد، وقد اعترف بأن جريمته عنصرية. وهذا الأمر يظل لغزاً ويطرح سؤالاً حول سبب استهداف الأكراد دون غيرهم.
لكن الأمر قد يجد تفسيراً بعد إعلان المدعية العامة لباريس لور بيكواو، أمس الأحد، أن مرتكب الهجوم، قال إنه ذهب أولاً إلى بلدة في ضاحية سانت دوني الشمالية للعاصمة باريس، “لارتكاب جرائم قتل ضد أجانب”. وأضافت بيكواو في بيان، إن المشتبه به “تخلى أخيراً عن التحرك في هذا الاتجاه نظراً لقلة الموجودين، وبسبب ملابسه التي تمنعه من إعادة ملء سلاحه بسهولة”. وأضافت أن منفذ العملية اعترف بأن “كراهيته للأجانب أصبحت حالة مرضية تماماً”.
وجاء هذا الحادث بعد وقت قصير من إعلان الادعاء العام الفرنسي أن السلطات الفرنسية اعتقلت في الرابع من الشهر الحالي 40 شخصاً من اليمين المتطرف، وهم مسلحون بأسلحة حادة، نزلوا إلى جادة الشانزليزيه في باريس بعد مباراة المغرب – فرنسا خلال كأس العالم لكرة القدم، وكانوا ينوون الاشتباك مع مشجعي الفريق المغربي.
وطالما أن نتائج التحقيق في جريمة المركز الكردي لم تظهر بعد، فإن كل الاحتمالات تبقى واردة. وهذا لا يسقط مسؤولية اليمين المتطرف الذي يقوم خطابه بعمليات غسل دماغ، وبالتالي فإن الوضع يستدعي مراجعة أكثر شمولية.
اليمين المتطرف أصبح في الحكم في عدة بلدان أوروبية. بعضها يحكمها بصورة تامة مثل إيطاليا، وبعضها يشارك في البرلمانات بقوة مثل فرنسا، وباتت لديه منابر إعلامية واسعة الانتشار تحرض على العنف ضد المهاجرين.
دار حديث أخيراً بين الروائي الفرنسي ميشيل ويلبيك والفيلسوف ميشيل أونفري على صفحات مجلة أصدراها معاً تحت اسم “الجبهة الشعبية” حول الوضع في فرنسا. وفي العدد الرابع الذي حمل عنوان “نهاية الغرب”، تحدث الأول عن حرب أهلية في فرنسا. وقال ويلبيك إن هناك أشخاصاً بدأوا في حمل السلاح، وبأنه “ستقع أعمال للمقاومة” لاستهداف المساجد والمقاهي التي يتردد عليها المسلمون. ويبرر ويلبيك أعمال العنف التي يرتكبها حملة السلاح الذين يرتكبون المجازر في الأماكن العمومية، في المدارس، الشوارع، المقاهي بأن “معركة المصير” تحتم ذلك في نظره، وبأنه باسم تفوق البيض العرقي، وجب خوض هذه الحرب.
في الأسبوع الأول من هذا الشهر، أعلنت السلطات الألمانية عن كشف تنظيم “مواطني الرايخ الثالث” الذي صنفته منظمة إرهابية، لأنه كان يخطط للاستيلاء على مبان رسمية ألمانية من بينها البوندستاغ (البرلمان الألماني). ولا يعترف “مواطنو الرايخ” بمؤسسات الدولة الألمانية ويعدون الدولة الألمانية الحالية غير قانونية، ولهذا فهم لا يحملون وثائق رسمية ألمانية. وقال الادعاء العام الألماني في بيان، إن مواطناً روسياً من بين المحتجزين في هذه العملية، الأمر الذي يؤكد صلة روسيا باليمين الأوروبي المتطرف.
العربي الجديد