واشنطن تطيل أمد معاناة أوكرانيا

واشنطن تطيل أمد معاناة أوكرانيا

باستثناء بولندا، وربما رومانيا، فإن ‏‏أيًا من أعضاء حلف شمال الأطلسي ليس في عجلة من أمره‏‏ لتعبئة قواته لخوض حرب استنزاف طويلة ومرهقة مع روسيا في أوكرانيا. لا أحد في لندن أو باريس أو برلين يريد ‏‏المخاطرة بخوض حرب نووية‏‏ مع موسكو. ‏‏والأميركيون لا‏‏ يؤيدون خوض حرب مع روسيا، وأولئك القلة الذين يؤيدونها هم من الإيديولوجيين، أو الانتهازيين السياسيين السطحيين، أو ‏‏مقاولي الدفاع الجشعين‏‏.‏.. وسيكون ‏رفض واشنطن الاعتراف بالمصالح الأمنية المشروعة لروسيا في أوكرانيا والتفاوض على إنهاء هذه الحرب هو الطريق إلى صراع ومعاناة إنسانية مطوّلين.‏
* * *
خلال خطاب ألقاه في 29 تشرين الثاني (نوفمبر)، قال ‏‏نائب وزير الدفاع الوطني البولندي،‏‏ مارسين أوسيبا: “إن احتمال نشوب حرب نتورط فيها مرتفع للغاية؛ أكثر ارتفاعًا من أن نتعامل مع هذا السيناريو افتراضيًا فقط”. و‏‏يُزعم أن نائب وزير الدفاع الوطني البولندي يخطط‏‏ لاستدعاء 200.000 من جنود الاحتياط في العام 2023 للتدريب لبضعة أسابيع، لكن المراقبين في وارسو يشكون في أن هذا الإجراء يمكن أن يؤدي بسهولة إلى تعبئة وطنية.‏
في الوقت نفسه، ثمة قلق متزايد داخل إدارة بايدن من أن المجهود الحربي الأوكراني سينهار تحت وطأة الهجوم الروسي المتوقع. ومع تجمد الأرض في جنوب أوكرانيا أخيرًا، أصبح لمخاوف الإدارة ما يبررها. وفي مقابلة نشرت ‏‏في مجلة “‏‏الإيكونوميست”‏‏، اعترف قائد القوات المسلحة الأوكرانية، الجنرال فاليري زالوجني، بأن التعبئة والتكتيكات الروسية تعمل جيدًا -حتى أنه ألمح إلى أن القوات الأوكرانية قد تكون غير قادرة على الصمود أمام الهجوم الروسي المقبل.‏
‏ومع ذلك، رفض زالوجني أي فكرة عن التوصل إلى تسوية عن طريق التفاوض، وبدلاً من ذلك، التمس تقديم‏‏ ‏‏المزيد من المعدات والدعم لبلده. واستمر في الإصرار على أنه مع الحصول على 300 دبابة جديدة، و600 إلى 700 مركبة قتالية جديدة للمشاة، و500 مدفع هاوتزر جديد، سيظل بإمكانه أن يكسب الحرب مع روسيا. وفي الحقيقة، لا يطلب الجنرال زالوجني مساعدة؛ إنه يطلب جيشًا جديدًا. وهنا يكمن الخطر الأكبر على واشنطن وحلفائها في الناتو.
‏‏عندما تسوء الأمور بالنسبة لسياسة واشنطن الخارجية، فإن المؤمنين الحقيقيين بالقضية الكبرى يمتحون دائمًا من بئر عميق من خداع الذات الأيديولوجي لتقوية أنفسهم للمعركة النهائية. والآن، يواصل بلينكن، وكلاين، وأوستن وبقية حزب الحرب ‏‏التعهد بتقديم الدعم الأبدي‏‏ لكييف بغض النظر عن التكلفة. ومثل “الأفضل والألمع” في الستينيات، فإنهم حريصون على التضحية بالواقعية لصالح التفكير المتمني، والانغماس في دفقة الدعاية والترويج للذات من خلال القيام بزيارة معلنة إلى أوكرانيا تلو الأخرى.‏
يذكرنا هذا المشهد بشكل مخيف بالأحداث التي وقعت قبل أكثر من 50 عامًا، عندما كانت حرب واشنطن بالوكالة في فيتنام تفشل. في ذلك الحين، اختبأ المشككون داخل إدارة جونسون في حكمة ‏‏التدخل على الأرض‏‏ لإنقاذ سايغون من دمار ما. وفي العام 1963، كانت واشنطن قد أرسلت مُسبقاً 16.000 مستشار عسكري إلى فيتنام. وتم على الفور رفض فكرة أن واشنطن كانت تدعم حكومة في جنوب فيتنام ربما لا تكسب الحرب على فيتنام الشمالية. وقال وزير الخارجية في ذلك الحين، ‏‏دين راسك‏‏: “لن ننسحب حتى يتم كسب الحرب”.‏
بحلول ربيع العام 1965، كان المستشارون العسكريون الأميركيون قد بدأوا يموتون بالفعل. وأبلغ الجنرال ويستمورلاند، قائد قيادة المساعدة العسكرية في فيتنام آنذاك، ‏‏ليندون جونسون‏‏: “من الواضح بشكل متزايد أن المستويات الحالية للمساعدات الأميركية لا يمكن أن تمنع انهيار فيتنام الجنوبية… إن فيتنام الشمالية ‏تقوم بأعمال حاسمة لتحويل الموقف لصالحها… بناء على طلب الحكومة الفيتنامية الجنوبية، يجب اتخاذ قرار بالالتزام في أقرب وقت ممكن بإرسال 125.000 جندي أميركي لمنع استيلاء الشيوعيين على السلطة”.‏
‏الآن، يصل دعم إدارة بايدن غير المشروط لنظام زيلينسكي في كييف إلى نقطة انعطاف استراتيجية لا تختلف عن تلك التي وصل إليها ليندون جونسون في العام 1965. تماما كما قرر جونسون فجأة في العام 1964 أن السلام والأمن في جنوب شرق آسيا كان مصلحة استراتيجية حيوية للولايات المتحدة، تقدم إدارة بايدن حجة مماثلة الآن لسياستها في أوكرانيا. ومثلما كان الحال مع فيتنام الجنوبية في الستينيات، تخسر ‏‏أوكرانيا‏ حربها مع روسيا الآن.‏
‏تمتلئ المستشفيات والمشارح الأوكرانية بكامل قدرتها بالجنود الأوكرانيين الجرحى والمحتضرين. وقد أهدر وكيل واشنطن في كييف رأسمالها البشري ‏‏ومساعداتها الغربية الكبيرة‏‏ في سلسلة من الهجمات المضادة الهازمة للذات. ولا شك في أن الجنود الأوكرانيون الذين يحرسون الخطوط الدفاعية التي تواجه الجنود الروس في جنوب أوكرانيا رجال شجعان، لكنهم ليسوا حمقى. كان الأسبرطيون في ثيرموبيلاي شجعانًا، لكنهم ماتوا مع ذلك.
‏لعل الخطر الحقيقي الماثل الآن هو أن يظهر بايدن قريبًا على شاشة التلفاز ليكرر أداء ليندون ب. جونسون في العام 1965، مستبدلاً “فيتنام الجنوبية” بكلمة “أوكرانيا”:‏
‏”الليلة، أيها الإخوة الأميركيون، أريد أن أتحدث إليكم عن الحرية، والديمقراطية، ونضال الشعب الأوكراني من أجل النصر. ليست هناك أي قضية أخرى تشغل شعبنا. لا يوجد أي حلم آخر يراود على هذا النحو الملايين الذين يعيشون في أوكرانيا وأوروبا الشرقية… ومع ذلك، أنا لا أتحدث عن هجوم الناتو على روسيا. بدلًا من ذلك، أقترح إرسال تحالف من الراغبين بقيادة الولايات المتحدة، يتألف من القوات المسلحة الأميركية، والبولندية والرومانية إلى أوكرانيا، لإنشاء ما يعادل ’منطقة حظر طيران‘. المهمة التي أقترحُها هي مهمة سلمية، هدفها إنشاء منطقة آمنة في الجزء الغربي من أوكرانيا للقوات الأوكرانية واللاجئين الذين يكافحون من أجل النجاة من هجمات روسيا المدمرة…”.‏
في الحقيقة، ليست الكارثة المغلفة بالخطابة السبيل لإنقاذ شعب أوكرانيا. إن الحرب في أوكرانيا ليست قصة خيالية على غرار “نداء الواجب”. إنها توسيع للمأساة الإنسانية التي خلقها توسع حلف الناتو شرقًا. والضحايا لا يعيشون في أميركا الشمالية. إنهم يعيشون في منطقة لا يستطيع معظم الأميركيين تحديدها على الخريطة. وقد حثت واشنطن الأوكرانيين على القتال. والآن يجب على واشنطن أن تحثهم على التوقف.‏
‏تنقسم حكومات دول الناتو في تفكيرها حول الحرب في أوكرانيا. وباستثناء بولندا، وربما رومانيا، فإن ‏‏أيًا من أعضاء حلف شمال الأطلسي ليس في عجلة من أمره‏‏ لتعبئة قواته لخوض حرب استنزاف طويلة ومرهقة مع روسيا في أوكرانيا. لا أحد في لندن أو باريس أو برلين يريد ‏‏المخاطرة بخوض حرب نووية‏‏ مع موسكو. ‏‏والأميركيون لا‏‏ يؤيدون خوض حرب مع روسيا، وأولئك القلة الذين يؤيدونها هم من الإيديولوجيين، أو الانتهازيين السياسيين السطحيين، أو ‏‏مقاولي الدفاع الجشعين‏‏.‏
‏عندما انسحبت القوات الأميركية أخيرًا من جنوب شرق آسيا، اعتقد الأميركيون أن واشنطن ستمارس قدرًا أكبر من ضبط النفس، وتعترف بحدود القوة الأميركية، وتتبع سياسة خارجية أقل تشددًا وأكثر واقعية. وكان الأميركيون مخطئين، لكن ‏‏الأميركيين والأوروبيين‏‏ يعرفون الآن أن رفض واشنطن الاعتراف بالمصالح الأمنية المشروعة لروسيا في أوكرانيا والتفاوض على إنهاء هذه الحرب هو الطريق إلى صراع طويل الأمد، ينطوي على المزيد والمزيد من المعاناة الإنسانية.‏

*‏دوغلاس ماكغريغور

الغد