عقب الحرب العالمية الثانية، كرس علماء السياسة والاجتماع السياسى وعلم النفس السياسى والطب النفسى وغيرهم جهودهم للتوصل إلى صيغ عملية لإدارة الصراعات واحتوائها وحلها حتى لا تتصاعد إلى أزمات يصعب إدارتها، ناهيك عن حلها، وهى التى تدفع إلى الدخول فى حروب مدمرة غايتها إرغام الخصم على التفاوض وتقديم التنازلات بغية تحقيق المصالح القومية. وأثمرت هذه الجهود فى التوصل إلى نظريات عديدة تتناول أسباب الصراع كالحرمان الاقتصادى والتنافس الشرس على الموارد النادرة واختلال التوازن بين السكان والموارد، وتضافرت الجهود لمحاولة إنقاذ الإنسان من مهالك الصراعات والأزمات والحروب، تحدثوا عن ضرورة علاج الاختلالات البنيانية فيما أطلق عليه جالتونج، فى دراساته المركزة والقيمة الصراع البنياني.
ولقد حاولت دول عديدة متورطة فى صراعات وحروب، بما فى ذلك الصراعات الاجتماعية المتوالدة، توظيف هذا التراث العلمى والسياسى للتوصل إلى علاقات أكثر سلمية وتفاعلات أكثر تعاونية، ولم يدر بخلد أحد حتى الحرب الروسية الأوكرانية أن هناك من يتخصص فى إثارة النزاعات والصراعات والأزمات والحروب إلى الحد الذى صارت فيه صناعة بالمعنى الدقيق للكلمة.
والصناعة تبدأ بفكرة وتنتهى بمنتج، وبين الطرفين عملية طويلة ومعقدة من المتغيرات كالتكنولوجيا والموارد والأدوات والتسويق، الصناعة عبارة عن مدخلات ومخرجات وتسويق، والأهم المستهلك، هناك نماذج حديثة لصناعة الحرب، والدفع إليها، فالصراع الفلسطينى الإسرائيلى، والصراع الأمريكى الإيرانى والصراع الدولى على ليبيا، والصراع والحرب الدائرة فى اليمن، نماذج لصناعة الحرب، ومع ذلك تظل الحرب الروسية الأوكرانية أكثر الحروب تعبيرًا عن مهارة الولايات المتحدة فى صناعة حرب لم يكن أحد يتوقعها ولا يتوقع تطوراتها، ولا كيفية انتهائها؛ فمنذ أن تربعت الولايات المتحدة على قمة النظام الدولى عام 1991، بعد سقوط الاتحاد السوفيتى، وهى لا تقبل عن أحادية النظام الدولى أى بديل، بيد أن امتلاك روسيا النفط والغاز الطبيعى دفعها إلى البزوغ مرة أخرى كدولة كبرى فى نظام دولى هش، كما أن بروز القوة الاقتصادية الصينية خصوصًا سيطرتها على التجارة الدولية فى الوقت الذى تتعاظم فيه الديون الخارجية الأمريكية دفعت الصين إلى البحث عن مكانة رئيسية لها على قمة النظام الدولي؛ فكيف تستطيع الولايات المتحدة أن تحافظ على النظام الدولى الأحادى القطبية، فى الوقت الذى تسعى روسيا والصين إلى التنافس على قيادته؟.
فى صناعة الحرب لابد من تحديد الأطراف والموارد والمستهلك، ثم الغطاء الفكرى والسياسى، والأهم أن تكون بعيدة عن أعتاب الولايات المتحدة، حرب بالوكالة لا تبقى ولا تذر، هدفها الرئيسى إجهاد القوة الاقتصادية والعسكرية الروسية وإذلال جيشها كما حدث فى أفغانستان عام 1979، وهو الإذلال الذى فكك الاتحاد السوفيتى، وأنهك روسيا وكخطوة تالية تتم صناعة حرب جديدة طرفها الصين سواء فى بحر الصين الجنوبى أو حول مصير تايوان وهل تضمها الصين أو تحافظ الولايات المتحدة على استقلالها. وهكذا، اختلقت الولايات المتحدة قصة انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو كذريعة لجر روسيا إلى حرب استنزاف طويلة المدى، تتحمل ضحاياها البشرية روسيا وأوكرانيا وتكلفتها الاقتصادية أوروبا الهينة على نفسها وعلى الآخرين، هى حرب بالوكالة بامتياز، ضحاياها المواطنون الروس والأوكرانيون والأوروبيون وشعوب أخرى تعانى نقص الغذاء وتدفع فواتير أعلى للطاقة، وعلى الرغم من أن بعض الآثار الاقتصادية المدمرة لتلك الحرب من تضخم وبطالة وركود اقتصادى بدأت تمس المواطن الأمريكى، إلا أنها صناعة أمريكية موجهة ضد الآخرين سواء فى أوروبا أو آسيا أو دول الجنوب، دون الشعب الأمريكى ولم تعدم الولايات المتحدة أدوات ووسائل الترويج للعدوان الروسى وكخرق المواثيق الدولية والقانون الدولى على الرغم من أنها ذات الدولة التى قامت بخرق تلك الوثائق فى الحرب ضد أفغانستان والعراق وليبيا وغيرها، لقد وظفت بجدارة مؤسسات ومنظمات الحرب الباردة كالأمم المتحدة ومجلس حقوق الإنسان وغيرها ضد روسيا.
ولعل السؤال المُلِح اليوم يتعلق بمصير الحرب ومتى تنتهى ومصير روسيا وأوكرانيا، بل والنظام الدولى برمته. وعلى الرغم من تعدد نظريات التعامل مع الحرب وكيفية التوصل إلى التهدئة، فإننا أمام صناعة جديدة مفتاحها مع الولايات المتحدة وليس روسيا أو أوكرانيا أو أوروبا، هل تستمر وتتصاعد إلى نقطة الإجهاد التام للقدرات الروسية؟ أم تستخدم روسيا أسلحة أكثر فتكًا لإنهاء الحرب، أم يمكن أن تتململ أوروبا بضغط من شعوبها وتتجه إلى المصالحة مع روسيا، أم تغذى الصين الحرب لإضعاف روسيا وأوروبا أولاً فى قيادة مشتركة للنظام الدولى مع الولايات المتحدة؟ الحقيقة أن انتهاء الحرب يتوقف من ناحية على مدى رغبة الولايات المتحدة فى قبول تحول النظام الدولى إلى نظام تعددى يضم الصين وروسيا إلى قمته، وعلى مدى التقدم العسكرى الروسى فى أوكرانيا بصورة تمنع من إهانة الدب الروسى، لن يقبل بوتين بمثل تلك الإهانة له أو لروسيا، وإن وصل الأمر إلى استخدام السلاح النووى التكتيكى، وهو ما لا طاقة للبشر به لأنه سيؤدى إلى تصعيد ربما مباشر مع الولايات المتحدة. وإذا كانت الحرب قد صارت صناعة؛ فإن السلام أيضًا صناعة، ولذلك؛ فإن النظريات التقليدية لحل الصراع واحتواء الحروب بما فى ذلك نظرية المباريات، والتى قد يميل طرف إلى تبنى إحداها بينما يميل الآخر إلى تبنى أخرى، لم تعد كافية ولا حتى ملائمة لوقف الحرب الدائرة الآن وجمع الفرقاء على مائدة المفاوضات، يستلزم احتواء صناعة الحرب ترسيخ صناعة السلام بفكر تعايشى جديد، وأدوات تلائم العصر سريع التطور، وعقليات توافقية غير تصادمية.
د. عبدالمنعم المشاط
صحيفة الأهرام