أثارت تصريحات الرئيس الأمريكي جو بايدن في قمة العشرين التي عقدت في إندونيسيا الشهر الماضي، الكثير من التكهنات بشأن هوية وطبيعة النظام الدولي الجديد الذي بدأ بالتشكل. يقول بايدن واصفا لقاءاته بالرئيس الصيني شي بينغ، «لقد التقينا مرات عديدة مع شي جين بينغ وكنا صريحين في كل المجالات». ويضيف «أنا متأكد من أنه ليست هنالك حاجة إلى حرب باردة جديدة».
إذن يبدو أن المعادلة الدولية الجديدة قائمة على عنصرين لا ثالث لهما هما الولايات المتحدة والصين. وأن الحديث عن نظام دولي بتعددية قطبية تضم روسيا وأطراف أوروبية، إضافة إلى الولايات المتحدة والصين، لم تعد فكرة مطروحة. كما أن توفر نية التفاهم بين واشنطن وبكين، أسقط الحاجة إلى حرب باردة، ونقل التفاعل بين هاتين القوتين من مستوى سلبي إلى آخر، لكن هل يمكن المراهنة على هذه النوايا الإيجابية، وإدارة بايدن في استراتيجيتها التي صدرت في شهر مايو/أيار الماضي وصفت الصين، بأنها تمثل تهديدا للنظام العالمي؟ وإذا كانت تايوان هي بؤرة الصراع الأمريكي الصيني، فمن الذي سيتخلى عنها لصالح الآخر؟
التوافقات الدولية ليس معناها تخلي الدول عن مصالحها، بل هو تأجيل القضايا الشائكة إلى زمن لاحق، يستكمل فيه كل طرف أدواته اللازمة لتحقيق كل مصالحه
بداية لا بد من القول بأن التوافقات الدولية ليس معناها تخلي الدول عن مصالحها، بل هو تأجيل القضايا الشائكة إلى زمن لاحق، يستكمل فيه كل طرف أدواته اللازمة لتحقيق كل مصالحه. من هنا يصبح ملف تايوان قضية معلّقة من أجل إفساح المجال للتفاهم على الملفات الأخرى. ولو بحثنا في أسباب الاستعصاء السياسي في القضية التايوانية، سنجد أنها تكتسب أهميتها أمريكيا في ثلاثة مستويات. المستوى الأول اقتصادي، ويتعلق بأن تايوان هي مركز إنتاج الشرائح الإلكترونية التي تدخل في كل التقنيات الجديدة. والمستوى الثاني، هو أن مضيق تايوان تحديدا هو وسيلة مهمة للصين، يمكن أن يساهم في ضخ التجارة الصينية بشكل مضاعف، وبالتالي فإن الأمريكيين يعتقدون أن سيطرة الصين على تايوان، ستؤدي إلى تبديل المعادلات القائمة حاليا. أما المستوى الثالث، فهو مسألة حقوق الإنسان وحق التايوانيين بتقرير المصير. وعندما يُعلن الأمريكيون للصينيين بأنهم يوافقون على تأجيل الصدام في هذا الملف، فإن وجهة نظرهم بهذا الشأن تقول، إنه يمكنهم التعاطي مع هذه المستويات الثلاثة. فبالنسبة لإنتاج الشرائح الإلكترونية هناك جهد أمريكي للاستعاضة عن مركزية تايوان، من خلال إنتاج محلي أمريكي. أما في مسألة التجارة الصينية فمن وجهة نظر أمريكية وأوروبية، فإن الصين لا تتقيد بالشروط العادلة والمنصفة في التبادل التجاري، خاصة في مسألة الاستيلاء على الملكية الفكرية وغيرها. ومع ذلك فوجهة النظر الأمريكية تقول، يمكن التعاطي في هذا الموضوع، من خلال دفع الصين باتجاه المزيد من التقيد وتصحيح هذا السلوك التجاري. كما أن مسألة مضيق تايوان والفائدة المتحققة للصين منه في حالة استيلائها عليه، فالأمريكيون يقولون يمكن إيجاد البدائل الممكنة في المستقبل. وعليه فإن واشنطن ترى أن تأجيل البحث في هذا الملف مع الصين هو باتجاه تنفيس صدام لا مفر منه في معطيات اليوم، ولكن التأجيل سيكون على أساس تحسين الأوضاع، بنيّة أن العقود المقبلة قد تعطي فرصة لواشنطن وبكين في إيجاد الصيغ التي تمنع هذا الصدام إلى الأبد. وما ينطبق على واشنطن ينطبق على الصين أيضا، فبكين تسعى لتأجيل الصدام مع واشنطن حول هذا الملف، لأن العناصر الأساسية لاستعادة تايوان ما زالت غير مستكملة، سواء بالقوة العسكرية أو بغيرها، لكن وعلى الرغم من حالة التفاهم هذه، يبدو أن الطرفين احتفظا بأوراق الرجوع عن هذا الموقف البنّاء والإيجابي. فوجهة النظر الصينية المؤكدة على أن تايوان خط أحمر وطني، يتعلق بالسيادة والعنفوان والتاريخ وغيرها، إنما تبغي من خلالها عدم إتاحة المجال للولايات المتحدة للاعتراف بنيّة تايوان في الاستقلال، إذا كان لديها هذا الميل. هذا التشديد جاء ضمنيا للاحتفاظ بحق تصعيد المواقف في حال كان هنالك موقف أمريكي يحبذ استقلال تايوان. على الطرف الأمريكي جرى التأكيد على أهمية حقوق الإنسان، وحق تقرير المصير، وإثارة ملفات شين جانغ والتبت وهونغ كونغ. ويبدو أن هنالك فائدة عملية من خلال هذه الإشارة، للتأكيد أن هذه الجزيرة في حال قررت في يوم ما أن تكون مستقلة، فإن حق تقرير المصير الذي تدعمه الولايات المتحدة وحق الاستقلال سيكونان ورقة مطروحة. هذا يعني أن تأجيل الصراع تم، مع احتفاظ كل طرف بأوراقه وإمكانية العودة إلى الصراع، لكن يجب القول بأن بكين وواشنطن كلاهما يسعيان إلى تقاسم المصالح، وهذا مشروع في العلاقات الدولية. لكن إذا كان تحقيق هذه المصالح يأتي منسجما مع المصلحة العالمية فهذا أفضل، وتبدو الصين والولايات المتحدة مختلفتين في هذا الاتجاه.
واقع الامر أن الولايات المتحدة سعت بكل جهودها للتضييق على الصين، في ما يوصف أمريكيا بأنه محاولة لإنشاء بعض التوازن بالمنحنيين اللذين تعتمدهما الصين. المنحنى الاول هو الصعود الاقتصادي الهادئ، الذي يصل بالصين إلى مستوى الند بالنسبة للولايات المتحدة بعد فترة من الزمن. والمنحنى الثاني هو صرف هذا الصعود الاقتصادي على بناء قوة عسكرية، تفرض نفسها في بحر الصين الجنوبي وفي الجوار الصيني، وفي أوروبا وما بعد أوروبا. إذن السبب الذي جعل الاستراتيجية الأمريكية، التي صدرت بداية العام الجاري، تصف الصين بأنها تمثل تهديدا للنظام العالمي، إنما هو ناتج عن حالة الخوف من انحياز الصين إلى المنحنى الثاني. لكن من خلال التحفيز والتواصل وبناء الثقة، قد يتبين للجميع أن المصلحة المشتركة، هي أكبر من الخوف الذي يمكن أن يؤدي إلى المنحنى العسكري. وعليه فإن العالم يبدو أنه يتجه نحو ثنائية قطبية وليس تعددية قطبية، خاصة في ما يبدو أنه فشل في مسعى الرئيس الروسي بوتين، إلى تبديل الواقع وتحقيق التعددية القطبية من خلال التأكيد على القوة العسكرية لروسيا. وبذلك يمكن القول إن العالم اليوم أمام شكل من أشكال إدارة الصعود الهادئ للصين نحو الثنائية القطبية، يتضح ذلك من خلال حديث الرئيس الصيني تشي من أنه لا يسعى إلى الإطاحة بموقع الولايات المتحدة في العالم، بل ركّز على التعاون معها بقوله إن «بلاده مستعدة للعمل مع الولايات المتحدة الأمريكية لحل قضايا العالم الاستراتيجية». وعلى الرغم من كل ذلك يبقى المدى البعيد هو الساحة التي ستتضارب فيها مصالح الطرفين، وإن أحدى القوتين هي التي ستقود العالم، أي نوع من المواجهة المقبلة ستكون؟ هذا شيء آخر يبدو أنه مجهول الآن لكن المواجهة حتمية، لذلك يقول الأمريكيون علينا تقوية اقتصادنا وقدراتنا العسكرية، ودعم تشكيل شبكة من الحلفاء والشركاء، بهدف مشترك هو مواجهة النفوذ الصيني.
القدس العربي