الأرثوذكسية.. كنيسة ارتبطت بالسياسة من قسطنطين إلى بوتين

الأرثوذكسية.. كنيسة ارتبطت بالسياسة من قسطنطين إلى بوتين

احتفل معظم المسيحيين حول العالم قبل بضعة أيام بعيد الميلاد، بينما ينتظر رعايا الأرثوذكسية حلول الأعياد بعدهم بنحو أسبوعين، لكن الحرب التي فرقت الأشقاء من هذه الطائفة دفعت الأوكرانيين لتخطي تقاليدهم العريقة وتعجيل الاحتفال مع الطوائف الأخرى كي يخالفوا أشقاءهم الروس، ما يسلط الضوء مجددا على الترابط العضوي بين الدين والسياسة.

ومنذ قرون، درجت العادة على احتفال الكاثوليك والبروتستانت بعيد الميلاد في 25 ديسمبر/كانون الأول من كل عام، وذلك لاعتمادها على التقويم الغريغوري، لكن الكنائس الأرثوذكسية تؤجل هذا الاحتفال إلى 7 يناير/كانون الثاني بناء على التقويم اليولياني القديم.

ومع أن الدساتير تنص على أن كلا من روسيا وأوكرانيا دول علمانية، فإن الوقائع تكشف بجلاء عن الدور السياسي الذي تلعبه الكنائس الأرثوذكسية فيهما على صعيد التحشيد الشعبي وتعزيز الهوية، فلطالما تمتعت الكنيسة الأرثوذكسية بهذه المنزلة الأثيرة لدى القياصرة والملوك، وما زال بطاركتها يحرصون على توظيف قوتهم الناعمة في ساحات الصراع.

الجزيرة

لمحة تاريخية

نشأت المسيحية في ظل الاضطهاد الروماني، وظل أتباعها الأوائل ينتهجون العمل السري نحو 3 قرون، إلى أن تولى الإمبراطور قسطنطين الأول السلطة، وقرر الاعتراف بالمسيحية دينا من أديان الإمبراطورية عام 312، ثم اعتمدها دينا للدولة التي كانت أعظم دول العالم.

أسس الإمبراطور “الكنيسة القسطنطينية” في روما فوق المدفن الذي يعتقد أنه للقديس بطرس، أحد تلامذة المسيح عليه السلام، وهي الكنيسة التي تعد اليوم مقر الفاتيكان، ثم نقل الإمبراطور عاصمته إلى قرية للصيادين في آسيا الصغرى، تحظى بموقع إستراتيجي لإشرافها على مضيق تتلامس فيه أوروبا وآسيا، واشتق لها أيضًا اسمًا من اسمه (القسطنطينية)، وهي مدينة إسطنبول اليوم.

في عام 325، انعقد المجمّع المسكوني في نيقية (شمالي تركيا اليوم) للبتّ في أركان العقيدة والقضايا التنظيمية والشعائرية للديانة الجديدة، وتوالت المجامع برعاية الإمبراطور لتحقيق التوافق بين كبار الكهنة، لكن مجمّع خلقيدونية الذي انعقد عام 451 أسفر عن خلاف جوهري في تعريف طبيعة المسيح، وبدأ بذلك ظهور الأرثوذكسية المشرقية، ثم انقسمت المسيحية نتيجة الانقسام السياسي إلى الكنيسة الرومية البيزنطية الشرقية في القسطنطينية، والكنيسة الرومانية اللاتينية الغربية في روما.

وفي عام 1054، تطور الخلاف إلى ما سمي “الانشقاق العظيم” بين الكنيستين، وكان من أهم بنوده قضية انبثاق الروح القدس، وشعائر القربان المقدّس “الأفخارستيا”، وأحقية امتلاك بابا روما سلطة بابوية عالمية، وتبعية بطريرك القسطنطينية لروما. وكان للخلافات السياسية والثقافية بين الإغريق والرومان دور كبير في حدوث هذا الشقاق.

وهكذا نشأ المذهب الأرثوذكسي التابع للكنيسة الرومية البيزنطية، في مقابل الكاثوليكية التابعة للكرسي الرسولي في روما. وظلت الأرثوذكسية -التي تعني باللغة اليونانية الطريق القويم- منذ نشأتها موالية للسلطة في الدول المشرقية التي تخضع لها، كما كانت الكاثوليكية في الغرب الأوروبي تتمتع بسلطة كبرى من حيث امتلاك البابا للسلطتين الدينية والدنيوية معا.

لم تستطع الأرثوذكسية منذ نشأتها منافسة الكاثوليكية في القوة والانتشار، إذ تشير التقديرات اليوم إلى أن عدد أتباع الكاثوليكية يناهز 1.2 مليار نسمة، ما يجعل هذا المذهب وحده أكثر الأديان انتشارا في العالم، ثم يأتي عدد أتباع البروتستانتية بتعداد يبلغ تقريبا 800 مليون، أما أتباع الأرثوذكسية فقد لا يتجاوز عددهم في العالم كله 300 مليون. علما بأن البروتستانتية كانت قد انشقت عن الكاثوليكية في بداية عصر النهضة، ما يعني أن الفارق العددي بين أتباع الكاثوليكية والأرثوذكسية كان أكبر بكثير.

تبادل الطرفان اتهامات الكفر والهرطقة حتى قبل الانشقاق، وعندما أطلق بابا روما الحملات الصليبية وقعت مذابح وحروب طاحنة بينهما، حتى استولى اللاتين مؤقتا على القسطنطينية ونهبوها في الحملة الصليبية الرابعة عام 1204، لكن الضربة الكبرى للكنيسة الشرقية كانت باستيلاء العثمانيين على القسطنطينية عام 1453 وتحويلها إلى عاصمة الدولة الإسلامية “إسلامبول” أي مدينة الإسلام.

لم يقضِ العثمانيون على الكنيسة وأتباعها، لكن السلطان محمد الفاتح حوّل مقرها “كاتدرائية آياصوفيا”، حسب العرف المتبع في فتوحات العثمانيين وبعد شرائه، إلى مسجد، فنقل البطريرك المسكوني متّى الثاني مقره إلى دير القديس جرجس في شمال غرب المدينة، والذي ما زال حتى الآن مقر البطريركية القسطنطينية، كما انتقل الكثير من رجال الكنيسة إلى اليونان آنذاك.

الحلم الروسي

في عام 988، اعتنق فلاديمير أمير كييف (عاصمة أوكرانيا اليوم) المسيحية على المذهب الأرثوذكسي، ومع انتشار الأرثوذكسية في بلاد الروس والبلقان انتقلت الأسقفية من كييف إلى موسكو في سنة 1448.

وبانهيار الدولة البيزنطية، بدأت أحلام الروس بوراثة هذا المجد قبل اندثاره، ثم وجد أمير موسكو -المعروف باسم إيفان الرهيب- في الكنيسة الأرثوذكسية فرصة ذهبية لمنح دولته الناشئة الشرعية الدينية، ومع تتويجه ليصبح أول قياصرة روسيا في عام 1547 استخدم إيفان الأرثوذكسية لتسويغ سلطته المطلقة.

كان القيصر يتمسك بالحق الإلهي للحاكم على اعتبار أنه ممثل الرب على الأرض، ما يمنحه حق معاقبة كل خصومه بوحشية، إذ توثق الروايات التاريخية انتقامه من ضحاياه بإغراقهم وإحراقهم أحياء، وكذلك تعذيبهم بالماء المغلي أو المتجمد، مقتبسا هذه الصور من عقاب أعداء الرب في الجحيم.

ومع أنه كان يعدّ نفسه من أتباع المسيحية المخلصين، فقد كان إيفان الرهيب مستعدا لتغيير شرائع ديانته بما يوافق هواه، إذ لم يكترث لموقف الكنيسة من التعدد وكانت له 7 زوجات، كما كان يتدخل في شؤون الكنيسة ويعزل أساقفتها وكهنتها ويعدمهم أو يعذبهم لتحقيق مصالحه.

وفي عام 1589، نال رئيس الكنيسة الروسية لقب بطريرك واضعا نفسه بمرتبة بطاركة القسطنطينية والإسكندرية وأنطاكية وأورشليم، أملا في منح موسكو لقب روما الثالثة بعد سقوط القسطنطينية، وهو أمر لم يحظ بموافقة الكنائس الأرثوذكسية نفسها فضلا عن الكاثوليكية.

وبعد نحو قرن ونصف القرن، غيّر بطرس الأول وجه روسيا، فمع تحولها إلى إمبراطورية مترامية الأطراف بدأت القيم الأوروبية بالتغلغل فيها، وقرر الإمبراطور إلغاء البطريركية جاعلا الكنيسة من مؤسسات الدولة التي يدير شؤونها مجلس للأساقفة.

وبقيام الثورة البلشفية عام 1917 انهارت سلطة هذه الكنيسة، وعانت من اضطهاد السلطات الشيوعية الملحدة في العهد السوفياتي. وعندما سقطت الشيوعية بعد 7 عقود كانت الكنائس من كل الطوائف حول العالم قد فقدت كل سلطاتها، فعلى غرار الدول الأوروبية؛ نصّ الدستور الجديد على أن الاتحاد الروسي دولة علمانية ولا يجوز اعتماد أيّ ديانة دينًا لها.

عودة الحلم

لم تستطع الأرثوذكسية توحيد صفوفها في منظومة هرمية كما هو حال الكاثوليكية الخاضعة لسلطة بابا الفاتيكان، إذ يتوزع الرعايا الأرثوذكس اليوم على 9 بطريركيات كبرى، ومنها بطريركية موسكو التي يُقدّر عدد أتباعها بنحو 165 مليون شخص، إلى جانب 6 كنائس أرثوذكسية كبيرة تتبع النظام الأسقفي.

ومع أن الحلم الروسي بتحويل موسكو إلى روما ثالثة لم يكتمل، فإن الكنيسة الروسية ما زالت تحظى بنفوذ لافت على كنائس أرثوذكسية أخرى لا تتبع لها رسميا.

فعلى سبيل المثال، استقلت الكنيسة الصربية عن بطريركية القسطنطينية منذ عام 1879، وصارت بطريركية بلغراد وسائر صربيا في عام 1920 مستقلة تماما وبنفس مرتبة بطريركيات موسكو والقسطنطينية وغيرهما، لكن معظم الصرب ما زالوا يحتفظون بولائهم لروسيا روحيا، حتى أعلن وزير الداخلية الصربي ألكسندر فولين الصيف الماضي أن بلاده هي “الدولة الوحيدة في أوروبا التي لم تفرض عقوبات على روسيا” بسبب الحرب التي بدأتها ضد أوكرانيا في فبراير/شباط الماضي.

ومع أن الدستور ينص على علمانية الدولة الروسية، فقد أعاد الرئيس فلاديمير بوتين -الذي صعد إلى السلطة من سلّم المخابرات عام 2000- تشكيل هوية البلاد عبر استعادة مجدها القيصري بخلفيته الدينية، وفي عام 2009 نجح البطريرك الجديد كيريل في إقناع الرئيس بردِّ ممتلكات الكنيسة التي صادرتها الحكومة الشيوعية، لتصبح بذلك أغنى مؤسسة في البلاد، ويبدأ نفوذها في الظهور على كل الأصعدة.

صرح كيريل في عام 2011 بأن بوتين “معجزة” أرسلتها العناية الإلهية لإنقاذ روسيا، بينما يعتبر بوتين الكنيسة أحد أهم عناصر القوة الناعمة لطموحه الإمبراطوري. ويرصد المحللون ملامح كثيرة للمصالح المتبادلة بين الطرفين في اكتساب النفوذ المحلي والعالمي.

ومع تزايد حدة التوتر بين روسيا والغرب، تصعد إلى السطح تحليلات المفكر الأميركي صامويل هنتنغتون الذي طرح في عام 1993 نظرية “صراع الحضارات”، واعتبر فيها أن الحضارة الغربية القائمة على القيم العلمانية، بخلفيتها الكاثوليكية والبروتستانتية، في صدام مع حضارات أخرى، ومنها الحضارة الأرثوذكسية.

واليوم، تحرص روسيا على تصدر هذه الكتلة الحضارية بتزعّمها للكنيسة الأرثوذكسية، معتبرة أن بطريركية القسطنطينية -التي ما زال مقرها في إسطنبول- لا تستحق تولي القيادة منذ سقوطها في يد العثمانيين، ولا سيما بعد انضمام الجمهورية التركية العلمانية إلى المعسكر الغربي وحلف شمال الأطلسي (ناتو).

ومن هذا المنطلق، ينظر الكثير من الأرثوذكس إلى موسكو اليوم على أنها قادرة على إنقاذ الأعراق البيضاء من التفسخ الأخلاقي والانحطاط القيمي الذي تحمل لواءه الأجندة الليبرالية الغربية، فبالتوازي مع صدور التشريعات الجندرية في الدول الغربية، تحظر روسيا منذ عام 2013 أي دعاية للمثلية الجنسية، ولسد الثغرات في هذا القانون اعتمد مجلس الدوما (البرلمان) الروسي بالإجماع الشهر الماضي مشروع قانون مفصلا يحظر الدعاية للمثليين ومزدوجي الميل الجنسي والتأثير على الهوية الجنسية للأطفال وتغيير نوع الجنس.

وبينما يحرص الزعماء الأميركيون والأوروبيون على التصريح في كل مناسبة عن حمايتهم لقيم الحرية والديمقراطية، مع دمجهم للأيديولوجيا الجندرية في هذه المنظومة، يصرح المسؤولون الروس في المقابل بحمايتهم لقيم الأسرة، مع دمجها أيضا بالمنظومة الأرثوذكسية، ومن ذلك تصريح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف عندما قال في أواخر أغسطس/آب 2021 إن “الكنيسة الأرثوذكسية الروسية تحمل قيمها إلى الخارج، وتدافع عن القيم الأخلاقية التربوية التقليدية التي تتعرض لهجمات قوية جدا من جانب النخبة النيوليبرالية في عدد من الدول الغربية”.

وفي عام 2017، أظهر استطلاع للرأي أن 80% من الصرب يرون أن وجود روسيا القوية أمر ضروري لمواجهة النفوذ الغربي، كما تنتشر هذه المشاعر أيضا في دول أخرى مثل أرمينيا، وجزئيا في بعض مناطق اليونان وإستونيا ولاتفيا والجبل الأسود، وفي شرق أوكرانيا، وتسمى هذه الظاهرة بالروسوفيليا، أي “حُبّ روسيا”، وغالبا ما تنتشر في أوساط الأرثوذكس والقوميين الذين يعتبرون روسيا بمثابة الوطن الأم.

وفي سوريا، البلد الذي يعتنق معظم أهله الإسلام، تحظى بطريركية أنطاكيّة -ومقرها دمشق- باستقلال تام منذ نشأتها، فهي من أقدم كنائس العالم، لكنها تتعاطف كثيرا مع بطريركية موسكو، في مقابل تحالف بطريركية القدس (المنافسة لها على الزعامة الأرثوذكسية في المنطقة) مع بطريركية القسطنطينية.

ونظرا لتبعية النظام السوري السياسية لروسيا، تنتشر مشاعر الولاء والروسوفيليا بين الأرثوذكس السريان، وهو ما سهّل على بوتين أيضا تسويغ إرسال قواته إلى سوريا بذريعة حماية المسيحيين من تنظيم الدولة الإسلامية، وكأنه يستعيد ذريعة الحماية التي قدّمها القيصر في القرن التاسع عشر للسلطان العثماني، والتي أدى رفضُها من قبل السلطان إلى اندلاع حرب القرم.

ومنذ بداية التدخل الروسي العسكري المباشر في سوريا عام 2015، حرص البطريرك كيريل على مباركة هذه الحملة الدموية. وعندما زار بوتين دمشق في مطلع 2020، تعمّد اصطحاب رئيس النظام بشار الأسد معه لزيارة الكنيسة ومشاركته في إضاءة شموع يوم عيد الميلاد الأرثوذكسي.

حرب الأشقاء

كانت الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية قد انتقلت من كييف إلى موسكو في القرن الرابع عشر كما أسلفنا، وظلت الكنيسة الأوكرانية تابعة لموسكو منذ عام 1686. ومع انهيار الشيوعية في مطلع التسعينيات، عادت الكنائس لاستعادة حريتها في دول الاتحاد السوفياتي السابق، وحظيت الكنيسة الأوكرانية باستقلال تام في إدارة شؤونها مع الحفاظ على التبعية الرسمية لموسكو، ثم أُعلن في عام 1992 عن تأسيس بطريركية كييف المستقلة، والتي اعتبرتها موسكو منشقة عنها، بينما واصلت الكنيسة الأوكرانية التابعة رسميا لبطريركية موسكو أعمالها في البلاد.

في عام 2014، قرر بوتين انتزاع شبه جزيرة القرم من أوكرانيا عسكريا وضمها إلى روسيا، فهي منطقة تحظى بأهمية تاريخية لدى الكنيسة الأرثوذكسية، ولقيت هذه الخطوة مباركة البطريركية الروسية، كما أبدى الكثير من سكان القرم ولاءهم أيضًا لروسيا ولكنيستها بعد اقتطاع أرضهم من أوكرانيا، بينما أصبحت الكنيسة الأوكرانية التابعة لبطريركية موسكو في موقف حرج للغاية، فهي ملزمة بالولاء لبطريركية تبارك الحرب على البلاد.

أما بطريركية كييف فحظيت بالمزيد من الشعبية، وواصلت عملها دون أي اعتراف دولي، إلى أن قررت بطريركية القسطنطينية في أكتوبر/تشرين الأول 2018 الاعتراف بها بصفتها كنيسة مستقلة، وهي خطوة أدت إلى انشقاق تاريخي بين كنيستي القسطنطينية وموسكو. وكان الرئيس الأوكراني بيترو بوروشينكو المدعوم أميركيا قد أعلن آنذاك أن الأمن القومي الأوكراني لن يتحقق إلا بالاستقلال الديني عن روسيا.

وتقدّر الإحصاءات أن نسبة أتباع بطريركية كييف تصل إلى 44% من المسيحيين الأرثوذكس في البلاد، وهي نسبة تزيد بـ3 أضعاف عن أتباع الكنيسة الأوكرانية التابعة لبطريركية موسكو.

ضريبة السياسة

يحظى بوتين بشعبية لا تخفى حول العالم، حتى بين المسيحيين من طوائف أخرى غير الأرثوذكسية، إذ أبرز التقارب بينه وبين الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب مدى إعجاب تيار أقصى اليمين في الغرب بسياسة بوتين في مواجهة الأجندات اليسارية الليبرالية، كما يصرح العديد من المحافظين بتأييدهم له، مثل الإعلامي الأميركي تاكر كارلسون الذي أثنى مرارا على سياسات بوتين، والمبشر الأميركي البروتستانتي فرانكلين غراهام الذي امتدح قرار بوتين بحظر “الدعاية للعلاقات الجنسية غير التقليدية”، كما سافر إلى روسيا مرات عدة خلال السنوات السبع الماضية وحظي بلقاءات مع بوتين وكيريل.

وفي فرنسا، لا تخفي زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان تقاربها مع روسيا، كما أشارت تقارير إعلامية إلى مشاركة متطوعين يمينيين فرنسيين في المعارك إلى جانب الروس على الجبهات في أوكرانيا، وصرّح عدة سياسيين يمينيين بتأييدهم لضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا.

مع ذلك، لم تنجح جهود بوتين في اكتساب قلوب الكثير من الأرثوذكس أنفسهم، فالشقاق الذي أحدثته سياساته بين كنائس هذه الطائفة يبدو أعمق من الشقاق القديم بين الأرثوذكس والكاثوليك، فمع أن الأرثوذكسية هي ديانة الأغلبية في البلقان، لكن كلا من أوكرانيا وبلغاريا وصربيا والجبل الأسود واليونان وقبرص وجورجيا تزداد ابتعادا عن موسكو واقترابا من الغرب العلماني بخلفيته البروتستانتية والكاثوليكية.

وكي ندرك عمق الهوّة بين أتباع الطائفة الواحدة، تجدر الإشارة إلى تصريحات زعيم بطريركية كييف متروبوليت أبيفانيوس، الذي أصدر بيانا بعد فترة وجيزة من بدء الحرب قال فيه إن “روح المسيح الدجال تعمل في زعيم روسيا، وعلامات ذلك: الكبرياء، والإخلاص للشر، والقسوة، والتدين الباطل. وقد كان هتلر بهذه الصفات خلال الحرب العالمية الثانية، وهذا ما أصبح عليه بوتين اليوم”.

أما زعيم بطريركية القسطنطينية البطريرك المسكوني بارثولوميوس فلم يتردد في انتقاد الحرب الروسية في أوكرانيا، وقال في لقاء تلفزيوني إن العالم كله ضد روسيا، محذرا من أن تؤدي سياسات بوتين إلى “حرب باردة جديدة”.

وفي أفريقيا، لا تبدو الصورة مختلفة كثيرا، فمع تزايد جهود الكنيسة الروسية في السنوات الأخيرة لإنشاء أبرشيات جديدة في القارة السمراء، اعتبرت بطريركية الإسكندرية هذا التمدد اقتحاما لمنطقتها، وجاء ردها بالانحياز لاعتراف بطريركية القسطنطينية باستقلال بطريركية كييف.

وبعد 3 سنوات، وقبيل إعلان موسكو الحرب الأخيرة في أوكرانيا، أعلنت الكنيسة الروسية عن إنشاء إكسرخسية بطريركية (وحدة إدارية للكنيسة تقع خارج أراضيها الرئيسية) لها في أفريقيا، مما زاد من عمق الخلاف بين كنيستي موسكو والإسكندرية.

وفي ظل هذا التشابك المعقد للمصالح السياسية المتغيرة، قد لا يبدو الطريق معبّدًا أمام الطموح الإمبراطوري لبوتين بعباءة الدين، فحتى لو نجح في دخول التاريخ بصفته “فلاديمير الثاني”، أسوة بفلاديمير الأول الذي وضع أسس الأرثوذكسية قبل نحو ألف عام، فإن الشروخ التي تزداد اتساعا بين كنائس هذه الطائفة تؤكد استحالة استعادة أمجاد إيفان الرهيب، القيصر الذي استبد بالكنيسة وحده.

الجزيرة