منذ الأسابيع الأولى من العام 2022، هيمن حشد القوات الروسية بالقرب من الحدود مع أوكرانيا على الأجندة الدولية، وسط تحذيرات الأجهزة الاستخباراتية الغربية من قرب بدء الغزو الروسي المباشر للبلد الجار، وهو ما كانت تصر موسكو على نفيه جملة وتفصيلاً.
توقعات اندلاع حرب كبرى في قلب القارة العجوز بدت حينها ضرباً من الخيال. وكان أقصى ما تذهب إليه التكهنات هو شن روسيا اجتياحاً محدوداً في منطقة دونباس الموالية لها شرق أوكرانيا، في تكرار لسيناريو حرب الأيام الخمسة في جورجيا عام 2008، وهي رواية عززها إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الاعتراف باستقلال “جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الشعبيتين” عن أوكرانيا قبل بدء الحرب بأيام عدة.
العربي الجديد
إلا أن العالم استيقظ صباح 24 فبراير/شباط الماضي، على واقع جيوسياسي مغاير، وسط انتشار أنباء عن شن روسيا هجمات مكثفة في مختلف أنحاء أوكرانيا، بما في ذلك في محيط العاصمة كييف، بعد إعلان بوتين في خطاب متلفز عن إجراء “عملية عسكرية خاصة” تهدف إلى “نزع النازية” و”تحييد سلاح أوكرانيا” وحماية سكان دونباس.
ألكسندر تشالينكو: روسيا حققت بعضاً من أهدافها في أوكرانيا
راهن الكرملين في الأيام الأولى من الحرب على إحداث انقسامات في النخبة السياسية – العسكرية الأوكرانية، وسط دعوات كان يوجهها بوتين إلى العسكريين الأوكرانيين لإلقاء السلاح تارة والانقلاب على الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، وتولي السلطة تارة أخرى.
إلا أن الجيش وأجهزة الدولة الأوكرانية أبدت ولاء لم تضعه موسكو في الحسبان، على ما يبدو، بعد أن نشأ في أوكرانيا ما بعد السوفييتية جيل كامل لا يرى بلاده جزءاً من “العالم الروسي”، بينما أقدمت الدول الغربية على تقديم دعمين عسكري ومالي غير مسبوقين لأوكرانيا، وفرضت عقوبات اقتصادية قاسية على روسيا وصلت إلى حد حظر إمدادات نفطها المنقول بحراً إلى أوروبا اعتباراً من 5 ديسمبر/كانون الأول الحالي.
نتائج متواضعة في أوكرانيا
بعد مرور عشرة أشهر على بدء الحرب، تبدو روسيا بعيدة عن تحقيق أهدافها، وسط تعثرها في تحقيق تقدم على الأرض، وانسحابها من مدينة خيرسون التي سيطرت عليها في الأيام الأولى من الحرب، وعزم الغرب المضي قدماً في تزويد أوكرانيا بأحدث أنواع الأسلحة، لاسيما بعد استقبال زيلينسكي بحفاوة في واشنطن في أول زيارة خارجية يقوم بها منذ بدء الحرب.
ومع ذلك، يعتبر المحلل السياسي والصحافي الأوكراني، ألكسندر تشالينكو، أن روسيا حققت بعضاً من أهدافها في أوكرانيا، بما فيها ضم مقاطعات دونيتسك ولوغانسك وزابوريجيا وخيرسون، وإقامة ممر بري من روسيا القارية إلى شبه جزيرة القرم.
ويقول تشالينكو، في اتصال مع “العربي الجديد” من مدينة دونيتسك التي زارها عدة مرات خلال الأشهر الماضية: “على الرغم من مواجهتها حلف شمال الأطلسي بأكمله وليس أوكرانيا وحدها، إلا أن روسيا حققت بعض الإنجازات بحلول نهاية العام، من بينها ضم أربعة أقاليم جديدة إلى السيادة الروسية، وإقامة ممر بري إلى القرم التي لم يعد بمقدور كييف قطع المياه عنها أو نشر قوات على مسافة قريبة منها، وتمت السيطرة على ساحل بحر آزوف، ليصبح وكأنه بحر داخلي لروسيا”.
ويلفت إلى أن “القيادة الروسية تتبنى توجّهاً نحو استعادة وحدة الشعب الروسي، ولكن لا بديل عن مسار عسكري لتحقيق ذلك، إذ لم ترد أوكرانيا أن تصبح سويسرا ثانية تتعايش فيها قوميات مختلفة بين بعضها البعض”، على حد مقارنته.
ومع ذلك، يقر بأن الحرب في أوكرانيا كشفت عن مجموعة من المشكلات في أداء الجيش الروسي، مضيفاً: “بينت العملية العسكرية أن الجيش الروسي يقاتل بأساليب قديمة، مثل الهجمات المباشرة والصاروخية، بينما تتطلب حروب اليوم اعتماداً على التكنولوجيا الحديثة مثل المسيّرات، وأساليب التسلسل إلى عمق معسكر العدو، وهو ما كان يتبعه الجيش الأوكراني في أحيان كثيرة بنجاح”.
ولعل التعثر العسكري على الأرض هو الذي دفع بوتين إلى عقد اجتماع موسع مع هيئة وزارة الدفاع الروسية يوم الأربعاء قبل الماضي، شدد خلاله على ضرورة دراسة خبرة حلف شمال الأطلسي (الناتو) للاستفادة منها في تدريب القوات وتجهيز الجيش للارتقاء بقدراته القتالية، بينما أقر وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، خلال الاجتماع ذاته، بأن وزارته واجهت مشكلات خلال عملية التعبئة الجزئية التي تعد الأولى من نوعها في روسيا منذ الحرب العالمية الثانية.
غموض آفاق المفاوضات
على الرغم من عقد عدة جولات من المفاوضات الروسية الأوكرانية المباشرة في بيلاروسيا وتركيا في الأسابيع الأولى من الحرب، إلا أن العملية التفاوضية تعثرت فيما بعد، إثر وضع كل طرف شروطاً تعجيزية مسبقة لم يقبل بها الطرف الآخر، والتقدم المضاد الذي حققته أوكرانيا.
ومع ذلك، صدرت بحلول نهاية العام إشارات عدة للاستعداد للتفاوض من الجانب الروسي أولاً، ثم على لسان وزير الخارجية الأوكراني دميترو كوليبا، الذي دعا إلى عقد قمة للسلام بوساطة الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس، مع حلول الذكرى الأولى لبدء الحرب في فبراير المقبل. وربط كوليبا عقد أي مفاوضات مباشرة مع موسكو بمحاكمتها على ما قال إنها جرائم حرب اقترفتها في بلاده.
إيفان بريوبراجينسكي: ستواصل روسيا الحرب إلى حين الوصول لوضع يراه بوتين مقبولاً يمكن بدء المفاوضات انطلاقاً منه
وقوبلت شروط كوليبا برفض الكرملين الذي أكد على لسان المتحدث الرسمي باسمه، دميتري بيسكوف، أن روسيا لا تقبل أبداً بشروط الآخرين. كما قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إن موسكو لن تستخدم “صيغة السلام” التي طرحها زيلينسكي كأساس للمفاوضات، وتعتقد بأن كييف ما زالت غير مستعدة لمحادثات سلام حقيقية. وكان زيلينسكي قد طرح “خطة للسلام” من 10 نقاط، أبرز بنودها استعادة وحدة أراضي أوكرانيا وانسحاب القوات الروسية من بلاده وإعطاء ضمانات لكييف.
ويرجح الخبير الروسي في شؤون أوروبا الشرقية والوسطى، إيفان بريوبراجينسكي، أن روسيا قد تبادر بعقد مفاوضات سلام جدية في حال حققت لنفسها وضعاً تراه مقبولاً من جهة اعتراف أوكرانيا بخسارة بعض الأراضي التي سيطرت عليها روسيا بعد 24 فبراير الماضي.
ويقول بريوبراجينسكي، لـ”العربي الجديد” من العاصمة التشيكية براغ: “ستواصل روسيا الحرب إلى حين الوصول لوضع يراه بوتين مقبولاً يمكن بدء المفاوضات انطلاقاً منه. في نهاية الأمر، تنتهي جميع الحروب بالمفاوضات، ما لم يتم إلحاق هزيمة كاملة بالعدو. لذلك ستكون نتيجة هذه الحربهي إما هزيمة روسيا بشكل كامل أو حل وسط يرضي بوتين”.
وحول رؤيته للتنازلات التي قد تقدمها أوكرانيا من أجل إنهاء الحرب، يضيف: “من بين عوامل استعداد روسيا لمفاوضات إنهاء الحرب، اعتراف أوكرانيا بخسارتها بعضاً من أراضيها المحتلة حديثاً. كما من المؤكد أن الكرملين يريد تثبيت الممر البري إلى القرم، ولن يتراجع عن ذلك. في المقابل، أعتقد أن موسكو تستعد لمناقشة مسألة إقامة منطقة منزوعة السلاح في محيط محطة زابوريجيا النووية، ولكن من دون تسليمها لأوكرانيا على عكس ما فعلت مع محطة تشيرنوبيل النووية المنكوبة”.
ويتوقع استمرار الحرب وعدم عقد المفاوضات إلا بعد اتخاذ بوتين قرار بدئها، وإنهائها عند خلق موقف تفاوضي قوي له، خالصاً إلى القول إن الكرملين يدرك أنه لا يملك حالياً إمكانات لتحقيق أهداف أكثر طموحاً.
وكان بوتين قد أقر، في مؤتمر صحافي قبل أيام، بأن أي نزاعات تنتهي بالمفاوضات على المستوى الدبلوماسي، مؤكداً أن روسيا لم ترفض التفاوض يوماً، وواصفاً موقف أوكرانيا التي تمنع نفسها من المفاوضات بأنه “غريب”.
ومن اللافت أن بوتين استخدم حينها كلمة “الحرب” لأول مرة للإشارة إلى ما يجري في أوكرانيا، بعد إصراره طوال الأشهر الماضية على اعتماد مصطلح “العملية العسكرية الخاصة”. وسبق لزيلينسكي أن وقّع، في بداية أكتوبر/تشرين الأول الماضي، على مرسوم الإقرار بانعدام إمكانية إجراء المفاوضات مع روسيا ما بقي بوتين رئيساً لها.