غيرت الحرب في أوكرانيا مبنى الطاقة الأوروبية. فالعقوبات الأوروبية مثلما هي ردود فعل روسيا، دمرت شراكة طاقة بدأت منذ السبعينيات واجتازت الحرب الباردة. لقد آمن الرئيس بوتين بتعلق أوروبا العظيم بروسيا، لكنه أخطأ على مدى الطريق.
انخفضت صادرات الغاز الروسي إلى أوروبا إلى مستوى ما قبل العام 2000، وفي العام 2024 يتخلى الاتحاد الأوروبي تماماً عن التوريد الروسي. حظر النفط الذي فرضه الاتحاد قبل نحو شهر سيوقف إرساليات النفط منذ هذه السنة. هذا التغيير ليس زهيد الثمن: حسب تقديرات معينة، فإن تحقيق استقلال الطاقة للاتحاد عن روسيا كلف نحو نصف تريليون يورو. لكن خروج روسيا من السوق الأوروبية (مثلما أيضاً من أسرة القوى العظمى العالمية المحترمة) يبدو نهائياً.
لكن بينما باتت أوروبا أكثر تعلقاً بتوريد الغاز من النرويج، وليبيا، وقطر والولايات المتحدة، فإن لاعباً جديداً لم يؤخذ بالحسبان يصعد في هوامشها – تركيا. يتطلع الرئيس أردوغان لحصول دولته على مكانة خاصة كمن توحد مسارات التوريد التي تربط أوروبا مع منتجي الغاز، الجدد والقدامى على حد سواء.
يرقص في عرسين
من جهة، يدير أردوغان علاقات حب – كراهية مع موسكو، سواء كحليف لروسيا أم لأوكرانيا: فهو ينظم “اتفاقات القمح” ويوفر القناة الأكبر للاستيراد غير المسموح به من المنتجات الغربية. الربح الأكبر الذي يمكن أن يجنيه هو بناء مربض عظيم الحجوم للغاز الطبيعي في القسم الأوروبي من تركيا؛ منه الغاز الروسي الذي يضخ في أنابيب BlueStreem و TurkStreem مثلما من أنبوب إضافي الموجود قيد التخطيط، سينقل إلى أوروبا الجنوبية وكذا إلى النمسا وألمانيا.
في أثناء الزيارة الأخيرة إلى تركيا التي قام بها مدير عام غازفروم، الكيسيه ميلر، قيس حجم استيعاب الأنبوب بـ 60 مليار متر مكعب في السنة. معنى ذلك أنه من حيث الطاقة الكامنة، فإن حجم الغاز الذي يمر عبر تركيا كفيل بأن يصل إلى 115 مليار متر مكعب في السنة. عندما نأخذ بالحسبان تطلع تركيا لأن تصبح أحد المشترين الأكبر للنفط الروسي كي تبيعه لأوروبا كمنتجات نفطية لا تقع تحت العقوبات، حينئذ سيصبح أردوغان الوكيل الرئيس لمقدرات الطاقة الروسية في السنة القادمة (بالطبع إذا ما فاز في انتخابات الرئاسة). معنى الأمر ليس فقط هزيمة بوتين في “لعبة الطاقة” الجريئة التي اتخذها في أوروبا، بل وأيضاً انتصار اردوغان في هذه اللعبة. هذا النصر يمكن أن يؤدي إلى ارتفاع دراماتيكي في نفوذ تركيا الجغرافي السياسي.
الورقة القبرصية
من جهة، يلعب الأتراك “لعبة كبرى” في وسط آسيا وفي شرق البحر المتوسط. أولاً، يبدو أن أنقرة تقف من خلف فشل “حلف الغاز الثلاثي” الذي اقترحه بوتين على كازخستان وأذربيجان. في ظل الشراكة مع أذربيجان وجورجيا، تتطلع تركيا إلى زيادة قدرة المسارات عابرة القوقاز، في حين تبتز روسيا منتجات النفط الكازخستانية من خلال إغلاقات تعسفية للأنبوب في بحر قزوين الذي يسمح للشركات الكازخستانية أن تضخ إنتاجها إلى الميناء الروسي نوفوروسلساك في البحر الأسود.
ثانياً، تعول السلطات التركية على مرابض النفط والغاز المحتملة أمام شواطئها الجنوبية (مؤخراً، اكتشف هناك مربض جديد) وأمام الشاطئ الشمالي لقبرص حيث تحاول أنقرة بدء التنقيب منذ 2019. إذا أصبح نيقوس كريستودوليتس المرشح المفضل لدى الكرملين والمتصدر الآن في الاستطلاعات، رئيساً لقبرص في الشهر القادم، فإن الأحزاب الصقرية التي تؤيده لن تميل إلى حل وسط مع تركيا، ولهذا سيقلص النصر فرص المحاولة الدولية لإيجاد حل. بهذا الشكل، تتقدم أنقرة في فحوصات المربض من طرف واحد، فيما تنفذ خطتها لحل الدولتين في قبرص أو حتى لضم القسم المحتل من الجزيرة.
التقرب من إسرائيل
ثالثاً، يجدر بنا أن نتذكر بأن تركيا تجدد الآن علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل، بعد لقاء أردوغان ورئيس الوزراء في حينه لبيد في أيلول في نيويورك. تتطلع أنقرة للعمل مع إسرائيل ولبنان في إنتاج الغاز الطبيعي من الحقول الكبرى أمام الشاطئ الشرقي للبحر المتوسط إلى أوروبا.
الحقيقة أنه قد لا تتحقق تطلعات تركيا، لكن يبدو أن أنقرة تراهن على الجهد لأن تتحول إلى موردة غاز كبرى إلى أوروبا. إذا حصل هذا، سيعود الاتحاد الأوروبي لتلقي توريد الغاز من “الجار القريب” بينما المنتجون الأمريكيون والشرق أوسطيون يتوجهون إلى أمم آسيا وإلى طوق المحيط الهادئ.
وختاماً، بينما تبدو روسيا كقوة متآكلة ومهانة بإخفاقاتها في أوكرانيا، تصعد تركيا سواء كزعيمة العالم الإسلامي أم كقوة في الشرق الأوسط – الحاكم المطلق القوي والمتعاظم سيصبح شريكاً أكثر إشكالية من الحاكم المطلق الضعيف والشائخ.
القدس العربي