في هذا المقال الخاص سأعرض النقاط العشر التي يتقدم بها كتابي الجديد الذي نشر في الولايات التحدة في الأسابيع الأخيرة، بعنوان “إيران، الجمهورية الإمبريالية والسياسة الأميركية” (Iran an Imperialist Republic and US Policy)، وقد صدر عن دار نشر (Post Hill) باللغة الإنجليزية، وسنسعى إلى ترجمته للغات أخرى، بما فيها العربية.
هذا الكتاب الذي يلخص ثلاثة عقود من البحث والتحليل والعمل مع المؤسسات الأميركية والأطلسية على ملف الشرق الأوسط عامة، وإيران بخاصة، هو كناية عن تحاليل استراتيجية حول السياسات الأميركية تجاه المنطقة، وإعادة قراءة استراتيجيات النظام الإيراني تجاه أميركا والغرب قبل الاتفاق النووي، ومنذ توقيعه في 2015. وربما الأهم فيه هو الرد على سؤالين هما: لماذا تمكنت طهران من التأثير العميق في واشنطن لسنوات لحد التخلي عن حلفاء وشركاء تاريخيين؟ وكيف يمكن تغيير السياسة الأميركية ووضع حد للانفلاش الإيراني في المنطقة، والأهم منذ الخريف الماضي كيف يمكن دعم الثورة الإيرانية؟
1- جذور الجمهورية الإسلامية
مؤيدو النظام شددوا منذ عقود في أدبياتهم وتأريخهم للمنطقة أن جذور الجمهورية الإسلامية تعود إلى الثورة الشعبية ضد حكم الشاه، بينما التدقيق التاريخي يقول لنا إن بين مرحلة التظاهرات ضد النظام السابق وانطلاقة الحكم الخميني مرحلة دموية كانت بمثابة انقلاب إسلاموي ضد مكونات المعارضة والانتفاضة وإلغاء الخصوم والحلفاء على غرار تصفية البلاشفة ليسار الوسط الديمقراطيين وأنصار القيصر على حد سواء خلال ثورة 1917 في روسيا، بالتالي فشرعية نظام الخميني المبنية على مقولة إن الشعب الإيراني انتفض ضد الشاه ليأتي بنظام إسلاموي ليست قائمة في الوقائع التاريخية. الانتفاضة قامت ضد الحكومة وقتها تحت قيادة مختلف الفصائل، بمن فيهم الإصلاحيون الدستوريون واليسار والقوميون وأتباع الخميني. إلا أن هذا الأخير انقلب على كل الآخرين وألغاهم وسيطر وحيداً على السلطة. لذا، فالحكم القائم الآن هو انقلابي على رغم استفتاء شعبي قال نعم لدستور إسلاموي. فإذا كانت القوة الثورية المسيطرة غير تعددية، فإن أي انتخابات أو استفتاءات لن تأتي بشرعية شعبية. وهذه كانت الخطيئة الأولى لجمهورية ولاية الفقيه، وهذا كان خطأ الغرب الأول، أي اعتباره النظام هو نتيجة ثورة، بينما كان صنيعة انقلاب.
2- الثمانينيات
في الثمانينيات، رافقتُ السياسة الأميركية تجاه المنظومة الخمينية بيروت، أي على منتصف المسافة الجيوسياسية بين واشنطن وطهران. فخلال عقد كامل شنت طهران حملات “شيطنة” Demonization على الولايات المتحدة، بدءاً برهائن السفارة الأميركية، مروراً برهائن “حزب الله” الأميركيين في بيروت إلى صدامات أميركية محدودة مع إيران، وكان الجمهوريون قد سيطروا على البيت الأبيض لعشر سنوات، فلماذا لم يطلق الرئيسان رونالد ريغان وجورج بوش الأب حملات جدية لردع “النظام المارق” Rogue regime منذ انطلاقته؟ ربما لسببين: الأول لأن واشنطن و”الناتو” انهمكا بدعم المعارضة الأفغانية ضد الاحتلال السوفياتي، وبإدارة السقوط التدريجي للمنظومة الشيوعية في أوروبا الشرقية، مركزين على خطر حلف وارسو. والسبب الثاني كان اعتماد الغرب على صدام حسين في حربه مع إيران “لكسر شوكة الجمهورية الإسلامية”، من دون الدخول في حرب شبيهة بفيتنام، ما دام الاتحاد السوفياتي لم يسقط بعد. ومرت الثمانينيات وسلم النظام.
3- التسعينيات
منذ حملة تحرير الكويت، رافقتُ السياسة الخارجية الأميركية كبروفيسور جامعي عضو في جمعيات الدراسات الشرق أوسطية مع تواصل محدود مع أعضاء الكونغرس ومع حملتي بوش وبيل كلينتون في 1992 ومع مستشاري الكونغرس للإرهاب منذ 1994. وتقييمي لسياسة واشنطن تجاه إيران في ذلك العقد تتلخص في أن طهران تمكنت من الإفلات من حملة أميركية ضد النظام لعدة أسباب أهمها التالية: أولاً بسقوط الاتحاد السوفياتي وتحرر أوروبا الشرقية، ركزت واشنطن على توسيع “الناتو”، ثم مع انفجار حروب البلقان تدخل “الناتو” مرتين في يوغوسلافيا السابقة. ومع قمة مدريد بين العرب وإسرائيل في 1992 وتوقيع اتفاق أوسلو، لم ترد إدارة كلينتون أن تفتح “جبهة إيرانية” كي لا تعم الفوضى فتسقط مبادرات السلام. وقامت إيران بالالتزام بعدم أخذ الرهائن لكسب الوقت مع إدارة كلينتون، كما أن طهران أرادت أن يتمكن “حزب الله” من إحكام سيطرته على لبنان في التسعينيات فهدأت حملتها على الولايات المتحدة. وعلى رغم أن العقد الذي أتى بعد انتهاء الحرب الباردة كان فرصة زمنية طويلة لحسم الملف الإيراني في ظل غياب القوة العظمى السوفياتية، فإن إدارة كلينتون تراجعت عن حسم كهذا لسبب إضافي، إذ إن “القاعدة” وحلفاءها كانوا قد شنوا حرباً شعواء ضد “الأميركيين الكفار وحلفائهم المسلمين في المنطقة”، مما شد أنظار واشنطن إلى “إرهاب تكفيري”، فخففت تصديها “لإرهاب الملالي”.
4 – بعد 11 سبتمبر
بعد ضربات سبتمبر (أيلول) 2001 نهضت الولايات المتحدة بحزبيها لمحاربة الإرهاب عالمياً. وأعلنت إدارة بوش عن مواجهة “محور الشر”، وفي وسطه إيران، وصنفت “حزب الله” و”حماس” تنظيمين إرهابيين بامتياز، واستعداد الرأي العام لحملة ضد إيران. إلا أن المحافظين الجدد شنوا اجتياحاً ضد العراق، لإسقاط صدام حسين، فاتحين الأراضي العراقية أمام عودة الميليشيات الشيعية من إيران، فبدأ الغزو الإيراني التدريجي للعراق. فاعتبرت طهران وجود قوات “الناتو” على شرقها في أفغانستان وعلى غربها في العراق بمثابة الخطر الوجودي الأكبر لنظامها، فاعتمدت الهجوم المعاكس الأكبر، وهو إخراج الأميركيين من العراق، وإخراج الأطلسيين من أفغانستان. ويشرح الكتاب استراتيجياً كيف نجحت إيران بذلك.
5- التغيير الاستراتيجي الإيراني
بعد احتلال العراق، اعتمدت طهران على خطة استراتيجية بعيدة الأمد تعتمد على “شراء” جزء من ماكينة التأثير والنفوذ في الولايات المتحدة عبر صفقة كبرى، تقضي بإنهاء المواجهة مع واشنطن والغرب، وترضي مصالح اقصادية ومالية ستتحول إلى كتلة ضغط. ومن أهم استراتيجيات التنفيذ للقيادة الإيرانية سعيها لاستيعاب جزء كبير من اليسار الأميركي من ناحية وجزء معين من أقصى اليمين، فتدخل عبرهما السياسات الراديكالية في أميركا. فنقلت طهران هجومها من داخل المنطقة إلى داخل الولايات المتحدة لسنوات عديدة.
6 – إدارة أوباما
مع وصول الرئيس باراك أوباما وفريقه إلى البيت الأبيض عام 2009 أحدث تغييراً هائلاً في السياسة الأميركية، إذ وافقت إدارته على عرض طهران للتوصل إلى “صفقة”، فكان ذلك نصراً لطهران. وتوالت التنازلات من التخلى عن الثورة الخضراء في 2009 إلى الانسحاب الأحادي من العراق في 2011، إلى السماح للحوثيين بالتمدد في اليمن، وعدم منع “حزب الله” من ضرب “ثورة الأرز” في لبنان، وعدم إسقاط نظام الأسد في سوريا، إلى توقيع الاتفاق النووي في 2015، والإسراع في تحويل المليارات للجمهورية الإسلامية منذ 2014. النظام الإيراني حقق انتصارين: الأول تغيير السياسة الأميركية لصالحه، فحمى نفسه من ضربات غربية، والانتصار الثاني الحصول على مليارات الدولارات مقابل “تعاونه لوقف البرنامج النووي”. ومن أبرز النتائج لهذه المعادلة التي فرضتها عملياً المعادلة الجديدة، فرض تباعد إدارة أوباما مع الشركاء العرب، لا سيما السعودية والإمارات والبحرين، وجفاء مع الحليفة إسرائيل. الجمهورية الإسلامية “اجتاحت” إدارة أوباما بتأثيرها، وإلى حد ما فرضت تصورها للشرق الأوسط على واشنطن حتى عام 2017.
ولكن الاتفاق النووي أحدث حالة جديدة وخطيرة داخل أميركا، وهي كما وصفتها في الكتاب “لوبي الاتفاق النووي”، وهو أوسع وأقوى من اللوبي الإيراني المحدود. وهذا ما يشكل أزمة تأثير راديكالي أساسية في المؤسسات الأميركية حتى الآن.
وسألخص هذه الأزمة في الحلقة المقبلة خلال فترتي دونالد ترمب وجو بايدن، وماذا يطرح الكتاب من حلول وسياسات بديلة.
اندبندت عربي