ترتدي الزيارة التي قام بها لفرنسا رئيس الأركان الجزائري الجنرال السعيد شنقريحة أهمّية خاصة، خصوصا لجهة توقيتها فضلا عن احتمال شراء الجزائر أسلحة فرنسية. يحتمل إقدام النظام الجزائري على مثل هذه الخطوة في ضوء الزيادة التي طرأت على الموازنة العسكرية من جهة والرغبة في إظهار أن الجزائر ليست في المعسكر الروسي، أقلّه ظاهرا، من جهة أخرى. هل تنطلي هذه اللعبة الجزائرية على فرنسا التي تعاني سياستها الأفريقيّة من مشاكل كبيرة؟
تزداد أهمّية الزيارة التي يقوم بها الجنرال شنقريحة في ضوء تراجع الدور الفرنسي في كلّ أنحاء أفريقيا، خصوصا في دول مثل مالي وبوركينا فاسو حيث بات للوجود الروسي، عبر مرتزقة “فاغنر”، دور مهمّ في إبعاد هاتين الدولتين عن الفلك الفرنسي.
أكثر من ذلك، لم يعد العداء لفرنسا في مالي وبوركينا فاسو أمرا مخفيا، بل صار علنيا وبات إحراق العلم الفرنسي في الساحات العامة أمرا أكثر من عادي وطبيعي. تطمح الجزائر إلى لعب دور في مجال ملء الفراغ الناجم عن الانسحاب الفرنسي من مالي وبوركينا فاسو والإيحاء لفرنسا بأن النفوذ الجزائري في هاتين الدولتين سيخفف من الأضرار الناجمة عن الاختراق الروسي فيهما… كما لو أنّ ثمّة فارقا يذكر بين الاختراق الروسي والاختراق الجزائري!
◙ لا شكّ أن فرنسا في حاجة إلى أسواق جديدة لسلاحها، خصوصا بعد كلّ الضربات التي تلقتها في أفريقيا إن من جانب روسيا أو من الصين
ليس سرّا أن الجزائر زادت موازنتها العسكرية بقيمة 18 مليار دولار. سيخصّص قسم كبير من هذه الموازنة لشراء السلاح. لم يعد مستبعدا دخول فرنسا على خط بيع الجزائر أسلحة في خرق للتفرد السوفياتي ثم الروسي بالسوق الجزائرية. تُعتبر الجزائر سوقا رابحة للتجار الروس والطبقة الحاكمة في الجزائر في الوقت ذاته. هذه طبقة “سياسية – عسكرية” على حد تعبير الرئيس إيمانويل ماكرون نفسه. نقلت هذا الكلام صحيفة لوموند الفرنسية لدى لقاء بين ماكرون ومجموعة من الشبان الفرنسيين من أصول جزائرية في باريس ولم يصدر نفي رسمي له.
تمهّد الزيارة الفرنسيّة للجنرال شنقريحة لزيارة أخرى لباريس من المقرّر أن يقوم بها الرئيس عبدالمجيد تبون في أيّار – مايو المقبل. تعني زيارة رئيس الأركان الجزائري أنّ فرنسا باتت تعرف جيّدا أين السلطة الحقيقيّة في الجزائر. تعرف خصوصا أنّ تبون ليس سوى واجهة للمجموعة العسكريّة الحاكمة التي تمسك بالقرار السياسي الجزائري ومفاصل الاقتصاد، بما في ذلك موارد النفط والغاز. هل يتمكن النظام الجزائري من استغلال فرنسا في وقت تحتاج فيه الأخيرة إلى الظهور في مظهر من اخترق سوق السلاح الروسي فيها؟
يبدو مثل هذا التطور واردا في ضوء عاملين. أولهما رغبة الجزائر في الظهور في مظهر جديد تجاه الإدارة الأميركيّة. في الواقع، يسعى النظام الجزائري في الوقت الراهن إلى توجيه رسالة، ذات طابع تطميني، إلى واشنطن خصوصا في وقت استعرت فيه الحرب في أوكرانيا. فحوى الرسالة أنّ الجزائر ليست في المعسكر الروسي وأنّها تمتلك هامشا للمناورة يسمح لها بالحصول على أسلحة فرنسيّة بدل أن تكون عرضة لعقوبات أميركيّة. أمّا العامل الآخر الذي يمكن أن يدفع فرنسا إلى بيع الجزائر أسلحة، فيتمثل في حاجة ماكرون إلى فتح أسواق جديدة أمام الصناعات العسكريّة الفرنسيّة.
يبقى الأهمّ، أن ليس معروفا إلى أين يمكن أن تذهب أي أسلحة تشتريها الجزائر التي لم تفعل، في يوم من الأيّام، شيئا يذكر من أجل التصدي للإرهاب والتطرف في منطقة الساحل الصحراوية، خصوصا في مالي. أخطر ما في الأمر أن النظام الجزائري، الذي يشنّ منذ العام 1975 حرب استنزاف على المغرب، يبدو مستعدا لتعويم أداته المسماة جبهة بوليساريو وذلك بغية تمكينها من استعادة نشاطها التخريبي. يتجاوز هذا النشاط الصحراء المغربيّة، بما يشجع على المزيد من النشاط الإرهابي في منطقة الساحل التي باتت مليئة بالتنظيمات المتطرفة. من يحتاج إلى دليل على ذلك يستطيع استعادة الدور الذي لعبه تنظيما القاعدة وداعش في مالي في السنوات القليلة الماضية.
◙ لم يعد العداء لفرنسا في مالي وبوركينا فاسو أمرا مخفيا، بل صار علنيا وبات إحراق العلم الفرنسي في الساحات العامة أمرا أكثر من عادي وطبيعي
قد يكون مفيدا حصول الجزائر، بفضل عائدات النفط والغاز وأسعارهما التي ارتفعت في السنوات القليلة الماضية، على السلاح الفرنسي. لكنّه ما قد يكون مفيدا أكثر معرفة وجهة استخدام هذا السلاح في وقت ليس ما يضمن خروج النظام في الجزائر من عقدته المغربيّة التي تحولت أخيرا هاجسا للنظام… وما إذا كان في استطاعة المجموعة العسكرية المهيمنة على البلد تجاوز هذا الهاجس في يوم من الأيّام.
لا شكّ أن فرنسا في حاجة إلى أسواق جديدة لسلاحها، خصوصا بعد كلّ الضربات التي تلقتها في أفريقيا إن من جانب روسيا أو من الصين. لكنّ السؤال الذي سيظل يطرح نفسه هل مصلحة فرنسية، في المدى البعيد، في متابعة سياسة استرضاء النظام الجزائري؟
يروج النظام حاليا لاستعدادات مغربيّة لحرب، في حين يعمل في كلّ يوم من أجل تعبئة الشعب الجزائري ضدّ شعب جار مسالم لا يكن للجزائريين سوى الود. ليس الترويج لمثل هذه الأجواء الكاذبة، أجواء الحرب، سوى تغطية لتصرفات نظام لا يستطيع الإقدام على أي خطوة تصب في خدمة الشعب الجزائري. على العكس من ذلك تماما، هناك نظام في حال هروب مستمرّة إلى خارج حدوده وخلق حال من اللااستقرار في منطقة الساحل وفي شمال أفريقيا. يؤكّد ذلك افتعاله قضية مثل قضيّة الصحراء المغربيّة، وهي قضية مصطنعة من ألفها إلى يائها.
عندما تراهن فرنسا على مثل هذا النظام، فهي تراهن عمليا على أوهام، قد تشفى منها يوما وقد لا تشفى، في غياب نظرة واضحة إلى نظام لم يستطع يوما أن يكون صاحب شرعيّة. لا لشيء سوى لأنّه نتاج انقلاب عسكري نفّذه هواري بومدين في العام 1965 على نظام مدني في غاية الغباء كان على رأسه أحمد بن بلة. كيف لنظام من هذا النوع، يعرف الرئيس الفرنسي طبيعته الحقيقية، بل يعرفها في العمق، أن يكون حجر الزاوية في السياسة الفرنسية في شمال أفريقيا؟
العرب