بثت القناة الفرنسية الخامسة سلسلة وثائقية بثلاث حلقات عن حزب الله اللبناني، توثّق فيها إحدى أهم العمليات السرية التي قامت بها الوكالة الأميركية لمكافحة الإرهاب والمخدّرات لاختراق أخطر “وجه خفيّ” للحزب في نظر العاملين في الوكالة، وهو مكتب العمليات التجارية المختصّ بجمع الأموال وتبييضها وشراء المخدّرات وبيعها وشراء السلاح وتمويل العمليات العسكرية التي يقوم بها في لبنان وسورية والعراق وغيره. وشملت التحقيقات أربع قارّات، وفي عدد من الدول، وأطلق على العملية اسم “كاسندر”، كما في الميثولوجيا الإغريقية، حيث كانت هذه الآلهة تتنبأ بالفواجع، لكن لا أحد يصدّقها! بدأ عمل المجموعة في الولايات المتحدة بعد أحداث “11 سبتمبر” (2001)، تفجير برجي التجارة العالميين في نيويورك. يقول رئيس هذه المجموعة، ديريك مالتز، إن الوكالة استطاعت اختراق أخطر كارتلات تهريب المخدّرات في أميركا الجنوبية التي منها بدأ الوكلاء العمل عن حزب إيران في كولومبيا، ليجدوا الخيط الأول الذي سيوصلهم إلى معرفة أطراف الشبكة بالأسماء في العالم ومعرفة أساليب عملها والمبالغ التي تبيّضها وحجم المخدّرات التي تشتريها وشراء الأسلحة، وكيفية تطور كل هذه العمليات، وصولا إلى الهيمنة على لبنان، والانقلاب على الحكومة بعد اغتيال عماد مغنية الذي كان المسؤول عن عمليات مكتب الشؤون التجارية، ويرتبط به الأشخاص المنتشرون في كولومبيا، بلد منشأ المخدّرات المستوردة، وبراغ حيث يجري شراء الأسلحة من روسيا وأوكرانيا وبنين الدولة الأفريقية لتبييض الأموال إلى باريس التي ازدهرت فيها عمليات جمع الأموال وتبييضها منذ عام 2010 بحسب الوثائقي، ونقْل ملايين من هذه الأموال بسهولة “غريبة” بين مطارات باريس وبيروت. وقد أصبحت باريس التي دخلت شرطتها في العملية طرفا لمراقبة ما يجري على أراضيها لصالح الوكالة الأميركية، وقد وثّقت جمع (وتبييض) ملايين الدولارات من أشخاص لهم ارتباطات بحزب الله. وبالتحاق باريس بالتحقيقات الأميركية، توسع اكتشاف الوكالة الأميركية لمكافحة الإرهاب والمخدّرات في علاقة الحزب والإرهاب وتهريب الأموال وتبييضها والمخدّرات من كولومبيا. وراقبت كل الأشخاص المنتمين له في القارّات الأربع، ووضعتهم على لائحة المطلوبين، ووصلت إلى اختراقهم بالكامل، ومعرفتهم واحدا واحد.
ما فوق الأرض في العراق هو لإيران وما تحتها يعود إلى الولايات المتحدة
ولكن المفاجأة التي لم تكن مفاجئة لبعض أعضاء عملية “كاسندر” أن كل جهودهم التي أثنت عليها قيادات عسكرية مهمة في البداية ارتطمت بما حصل من اتفاق نووي بين الولايات المتحدة وإيران في عهد الرئيس باراك أوباما. يقول دافيد أشتر، أحد أهم أعضاء العملية إن إيران اشتكت للأميركيين، ربما إلى وزير الخارجية جون كيري، من نشاط وكالة مكافحة الإرهاب والمخدّرات. وبالفعل، فعلت الشكوى الإيرانية فعلها، حيث جرى نقل أبرز الوكلاء في العملية إلى وظيفة إدارية للتخلص منهم!
هذا ما حصل في الولايات المتحدة في عهد الحزب الديمقراطي، وفي أوج تحرّكات اللوبي الإيراني فيها، الذي نشط بكل الوسائل الخفية والمعلنة لتحقيق توقيع الاتفاق النووي ين البلدين. أما في فرنسا، وقبل أن تضع الولايات المتحدة وكلاء العملية في الخزانة كما يقال، وبينما أكمل الجانبان، الفرنسي والأميركي، تحقيقاتهما، وأعلنا عن عقد مؤتمر صحافي لهما في باريس، أخبر الجانب الفرنسي الوكيل الأميركي الذي حضر للاحتفال بالإنجاز معهم أن المؤتمر الصحافي أُلغي، لأن الرئيس محمد خاتمي قد وقّع في أثناء زيارته باريس مع الجانب الفرنسي عقودا تصل قيمتها إلى ما بين 15 – 30 مليار يورو مع كبرى الشركات الفرنسية، والوقت هو وقت نسيان الضغائن!
هذا الفيلم الوثائقي دقيق جدا بمعلوماته وتحليلاته، لا يشبه أفلاما وتحقيقات كثيرة تبث عن مثل هذه المواضيع. يظهر علاقة الولايات المتحدة وفرنسا وروسيا بأهم مليشيا طائفية، موّلتها ودربتها وطوّرتها إيران، كما اعترف رئيسها علنا، ورغم وضعها على لائحة الإرهاب، لتصبح جيشا وبعدها دولة داخل الدولة اللبنانية. وبعد المشاهدة، لا يمكن إلا أن نعتبر ما يحدث في العراق نسخة طبق الأصل.
أصبح الشعب العراقي غالبية فقيرة تعاني شظف العيش وطبقة من أصحاب المليارات والملايين تتمتع بخيرات العراق وثرواته وامتيازات العملية السياسية
منذ 20 عاما، يوم غزت الولايات المتحدة بلاد الرافدين، بالتنسيق مع إيران وعمائمها وحوزتها غير العراقية النافذة والمليشيات التي أتت معها، اتفق على تقاسم الغنيمة: ما فوق الأرض هو لإيران وما تحتها يعود إلى الولايات المتحدة، مؤطّرا بالاتفاق الاستراتيجي الموقّع مع العراق عام 2008 مع حكومة نوري المالكي. هذه المعادلة التي فُصلت للعملية السياسية التي وضعها الاحتلال، وجيء لها بدستور كتبه المحامي الأميركي نوح فيلدمان، هي المشكلة الحقيقية التي يعاني منها الشعب العراقي، وهي الأزمة الحقيقية، وليس صعود الدولار وهبوط قيمة الدينار الذي انعكست آثاره بشكل كبير على الشعب العراقي الذي، كما قال مواطن من قناة تلفزيونية، أصبح يتكون من غالبية فقيرة تعاني شظف العيش وطبقة من أصحاب المليارات والملايين تتمتع بخيرات العراق وثرواته وامتيازات العملية السياسية والاحتلال الأميركي الإيراني لم يعرف لها العراق في تاريخه من سابق. إنها مشكلة التجاذبات الإيرانية الأميركية، أصحاب العملية السياسية المتصارعين على الغنيمة التي بين أيديهم. إنها ليست وليدة اليوم، ففي كل مرة أرادت إيران أن تقضم أكثر مما تم التوافق عليه، يرفع الجانب الأميركي عصاه وتتراجع إيران محاولة أن تجد بابا آخر تدخل منه، للحصول على المزيد. بل لم تهتم الولايات المتحدة طوال 20 عاما بما تقوم به إيران وأتباعها، سواء بتهريب الدولار أو غيره، ولا من تزوير جديد للدينار وتحويل الدولار المطروح من البنك المركزي للسوق إلى منصّات وعقود تجارية وهمية إلى إيران، لكنها تحرّكت بعد أن قامت هذه بالمساهمة في الجهد الحربي الروسي ضد أوكرانيا، عبر تزويد روسيا بمئات من الطائرات المسيّرة والأسلحة، ما أثار حفيظة الولايات المتحدة التي اتجهت أول ما اتجهت، كرد منها على الدولار المهرّب من المنافذ الحدودية، وعبر شركات الصيرفة والبنوك التابعة لأتباعها، وفرضت نظام سويفت على 16 بنكا عراقيا لتمنع تدفق هذه الأموال لشريكتها، ويكون هذا الردّ مجرّد جواب، وليس أي شيء آخر، كما علقت وصرحت السفيرة الأميركية في بغداد، إيلينا رومانسكي، التي قالت، في مقابلة تلفزيونية، إن ما تقوم به الخزانة الأميركية اليوم ليس جديدا، ويعود إلى عامين، والهدف منه محاربة الفساد في العالم.
ما سمّيت “أزمة الدولار” في الإعلام العراقي ليست إلا أزمة العملية السياسية المحشورة بين طرفي الاحتلال، حيث يعجز فيها رئيس الحكومة، محمد شياع السوداني، عن اتخاذ قرار لا يتلاءم مع مصالحهما، حتى لو كان إجراء بسيطا يهم غالبية الشعب، بل إنه ظهر علنا مجرّد منفذ لما يفرضه عليه “الإطار التنسيقي الولائي” في تعيين مدير جديدا للبنك المركزي، لضمان استمرار عمليات ابتلاع أموال العراق بطرق تلاعب جديدة، وتقديم مزيد من المنافذ للمليشيات للحصول على مؤسّسات مدعومة حكوميا، لحصد عقود البناء والاستثمار. في الوقت نفسه، يعاد تكرار مشاهد الاستقبال لرؤساء حكومات الاحتلال السابقة من بعض الدول ودعم ممثلة الأمم المتحدة أمام مجلس الأمن الحكومة، ومشاهد توقيع العقود مع فرنسا وعقود للكهرباء مع “سيمنس” الألمانية. ويمكن إضافة الرئيس الأميركي، بايدن، الذي استقبل في واشنطن، ملك الأردن، عبدالله الثاني، وطرح مشروع إنشاء خط النفط البصرة – العقبة، ليكون “نفط العراق للعراقيين”.
هل سيحلّ هذا المشروع الذي يتطلب الكثير لتحقيقه ولسنوات أزمة خفض الدينار العراقي وتهريب الدولار، أم أن ذلك يبدو مجرّد قصص تضاف إلى سلسلة المشاهد السابقة، مثلها مثل العقود المكرّرة لكل الحكومات التي يسمع بها العراقيون منذ عهد نوري المالكي، ولم يروا منها أي إنجاز على الأرض؟ بل إنها الأسطوانة نفسها تشغّل لتلميع صورة الحكومات المتعاقبة المعوقة، لتسويقها فقط، وإبقاء العملية السياسية للاحتلال الأميركي الإيراني، لاستكمال مهمة تدمير العراق.
العربي الجديد