بروكسل – خلال القرن الماضي شهد النظام السياسي في وسط أوروبا نموذجا من علاقات الحب والكراهية الأيديولوجية بين ألمانيا وروسيا. وقد خضعت الأراضي الواقعة بين القوتين، من منطقتي البلقان والبلطيق، للسيطرة بشكل متناوب ما بين الدولتين، ودائما ما كان ذلك بمسؤولية مشتركة.
وفي كل مرة تفشل فيها الدولتان في التوصل إلى اتفاق بشأن تقاسم السلطة كان ينشأ فراغ سياسي تسبب في اندلاع حروب عالمية.
واندلعت الحرب العالمية الأولى بسبب الفراغ في منطقة البلقان، أعقبها فراغ في وسط أوروبا وشرقها وهو ما أدى إلى اندلاع الحرب العالمية الثانية. واندلعت الحرب الباردة عندما تجاوز النفوذ السوفييتي في المنطقة الحدود المقبولة للتوافقات السابقة، بينما من الواضح أن الحرب الحالية، أو غزو روسيا لأوكرانيا، كانت نتيجة لفراغ أوكراني.
وقال الباحثان توماس فروبليفسكي الرئيس التنفيذي لمعهد وارسو إنتربرايز ودارين سبينك الزميل المشارك في جمعية هنري جاكسون، وهي مؤسسة أبحاث في السياسة الخارجية والأمن القومي عبر المحيط الأطلسي ومقرها في المملكة المتحدة، إن أوروبا تواجه اليوم وضعا غير مسبوق.
حتى دون مبادرة الحزام والطريق تشكل العلاقات الاقتصادية بين بكين ووسط أوروبا وشرقها مخاطر على المنطقة
ومع تراجع النموذج الروسي الألماني لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية فقدت القوتان نفوذهما السياسي السابق في المنطقة. فقد انهار النفوذ الاقتصادي الروسي في أوروبا، بينما تراجع نموذج النمو الفريد لألمانيا بشكل كبير، وكذلك دورها بوصفها السلطة الأخلاقية الرئيسية في الاتحاد الأوروبي.
ويعتبر هذا المناخ الجيوسياسي المتطور فرصة فريدة لدول وسط أوروبا وشرقها لإنشاء هيكل أمني اقتصادي أوروبي جديد ومسؤول. إلا أن هذا الفراغ السياسي الأوروبي – الآسيوي يمثل أيضا تهديدا وجوديا للمنطقة إذا ملأه في نهاية الأمر نوع مختلف من النفوذ، وهو نفوذ الحزب الشيوعي الصيني.
ورأى الباحثان فروبليفسكي وسبينك أنه حتى قبل الغزو الروسي لأوكرانيا سعى الحزب الشيوعي الصيني للحصول على النفوذ في المنطقة من خلال مبادرة الحزام والطريق والتعاون بين الصين ودول وسط أوروبا وشرقها أو ما يعرف بمجموعة 17 زائد 1.
ومع ذلك فإن العقوبات الغربية على روسيا، دفعت موسكو إلى أن تصبح معتمدة على بكين للحصول على المنتجات والمواد ذات الاستخدام المزدوج التي يستخدمها الجيش الروسي، ومن بينها الرقائق الدقيقة وأكسيد الألومنيوم وغيره من المواد الخام، مما أدى إلى أن تنهي دول البلطيق تعاونها مع بكين. وقد ظل مستقبل التعاون بين الصين ودول وسط أوروبا وشرقها غير مؤكد منذ ذلك الحين.
وقال الباحثان إنه حتى دون مبادرة الحزام والطريق أو المبادرات الرسمية الأخرى بين الصين ودول وسط أوروبا وشرقها تشكل العلاقات الاقتصادية الوثيقة بينهما مخاطر على المنطقة، بما في ذلك تصدير النموذج الاقتصادي التجاري الشيوعي الخاص بالحزب الشيوعي الصيني والاستبداد التكنولوجي.
وتمتلك الصين قدرة على الضغط على شركائها التجاريين في وسط أوروبا وشرقها من خلال اعتماد اقتصادي غير متكافئ وغير متوازن من المنطقة على الواردات الصينية. ولا تتم عملية التبادل التجاري بين الجانبين بشكل عادل نتيجة تأمين الصين لسلاسل التوريد لصالحها وإنهاء اعتمادها على الواردات الأجنبية عالية القيمة من خلال النموذج الاقتصادي المسمى “التداول المزدوج” الذي ينتهجه الحزب الشيوعي الصيني.
وقد استغلت بكين بشكل متزايد هذا الاعتماد الاقتصادي من خلال دعمها لخط سكك الحديد الممتد عبر آسيا إلى بولندا وجمهورية التشيك، والذي يقدم للصين طريقا تجاريا ومحورا جذابا وسريع النمو للمنطقة.
وبالنسبة إلى الصين يكتسب خط سكك الحديد هذا أهمية أكبر من مجرد التجارة. ويعد هذا الطريق الذي يبلغ طوله 9500 كيلومتر بديلا محتملا لطرق التجارة في منطقتي المحيطين الهندي والهادئ.
وفي حالة حدوث أعمال عنف في مضيق تايوان قد يكون هذا الطريق هو الطريق الوحيد للصين لتصدير السلع سريعا إلى الغرب. ومن خلال بناء تبعيات تجارية في المنطقة واختراق أسواق منطقة وسط أوروبا وشرقها، التي تعتبر صديقة بشكل خاص للولايات المتحدة، يمكن للصين أن تحقق مزايا إستراتيجية جديدة وإحداث انقسام في الشراكات الغربية.
وهكذا فإن اهتمام الصين بتوسيع طريق التجارة التاريخي وتطوير التعاون في شرق أوروبا ووسطه ليس مفاجئا. وفي ظل الاضطرابات الجيوسياسية في المنطقة ربما يكون نفوذ الحزب الشيوعي الصيني، إلى جانب التوترات الروسية – الأوكرانية والتوترات المحيطة بتايوان، أحد أكثر التحديات خطورة بالنسبة إلى الغرب اليوم.
وأوضح فروبليفسكي وسبينك أن مبادرة البحار الثلاثة، وهي عبارة عن منتدى للتنمية الاقتصادية وتنمية البنية التحتية يضم 12 دولة من الدول الأعضاء بالاتحاد الأوروبي في منطقة وسط أوروبا وشرقها بين ثلاثة بحار وهي بحر البلطيق والبحر الأسود والبحر الأدرياتيكي، يمكن أن تساعد في مواجهة التهديدات الاستبدادية من روسيا وجمهورية الصين الشعبية.
ومن خلال الهياكل الأمنية الإقليمية والتعاون العسكري والمبادرات المشتركة للبنية التحتية يمكن أن تساعد مبادرة البحار الثلاثة المنطقة على تأمين سلاسل الإمداد وتحقيق أمن الطاقة والاستقلال عن الاستثمارات الصينية، وكذلك تطوير بنية أمنية إقليمية جديدة للرد على التحديات الجيوسياسية المستقبلية.
مع تراجع النموذج الروسي الألماني لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية فقدت القوتان نفوذهما السياسي السابق في المنطقة
وهناك حاجة بشكل خاص إلى الاستثمار في منطقة وسط أوروبا وشرقها في ظل استمرار حكومات دول مبادرة البحار الثلاثة في مواجهة ضغوط اقتصادية نتيجة للتضخم والحرب الروسية – الأوكرانية والتعافي البطيء من إغلاقات جائحة فايروس كورونا.
ولا يمكن توقع أن تقوم الحكومات الإقليمية بتمويل تطوير البنية التحتية الإقليمية، كما لا يمكن الاعتماد على دول مجموعة السبع مثل الولايات المتحدة وبريطانيا لتقديم استثمارات، عندما تكون الأولوية بالنسبة إليهما هي تمويل المساعدات العسكرية لأوكرانيا.
ورأى الباحثان فروبليفسكي وسبينك أنه بمجرد التوصل إلى حل سياسي لإنهاء الأعمال العدائية بين موسكو وكييف ستتحول الأولوية من مساعدة أوكرانيا عسكريا إلى المساعدة في إعادة بناء البلاد.
ويجب أن يلعب صندوق استثمار مبادرة البحار الثلاثة، الذي يساعد في تمويل مشروعات النقل والطاقة والبنية التحتية الرقمية، دورا مهما ليس فقط في إعادة بناء أوكرانيا ولكن أيضا في ضمان بقاء اقتصاد منطقة وسط أوروبا وشرقها بأكملها غير عرضة للضغط من روسيا أو الصين أو أي دول أخرى.
ويؤكد فروبليفسكي وسبينك أن معظم الدول الغربية التي تساعد أوكرانيا اليوم تفعل ذلك من خلال المعابر الحدودية في بولندا أو رومانيا، إلا أن معظم الأنشطة تقوم بها كل دولة بشكل مستقل. وينخرط حلف شمال الأطلسي (الناتو) والاتحاد الأوروبي،بالطبع في تقديم الدعم لأوكرانيا، إلا أنهما لا يقومان بذلك بتنسيق واسع النطاق بينها.
ويشير الباحثان أنه من خلال استخدام مبادرة البحار الثلاثة لتنسيق ليس فقط اللوجستيات ولكن أيضا للمشاركة في تحويل أوكرانيا إلى ديمقراطية غربية مزدهرة، تستطيع منطقة وسط أوروبا وشرقها أن تبنى بنية واسعة مقاومة لأيّ اختراق آخر من الحزب الشيوعي الصيني في المنطقة.
العرب