لم يهدم الزلزال المدمر الذي ضرب الحدود التركية السورية فجر الإثنين الماضي جدرانا إسمنتية وبنى تحتية فحسب، بل أسقط حواجز وخلافات سياسية هيمنت على علاقات بعض الدول ببعضها البعض لسنوات عدة، أو حتى الانقسامات داخل الدولة الواحدة.
فقد أثبتت تلك الفاجعة أنه في وقت الأزمات والكوارث الطبيعية ربما تتوارى الخلافات والحسابات السياسية ولو مؤقتا لتسمو فوقها مبادئ الإنسانية.
فمع سقوط عشرات الآلاف من القتلى والمصابين وتكشف حجم الدمار الهائل والخسائر في البلدين المنكوبين، نحت دول لا ترتبط بعلاقات طيبة مع تركيا أو سوريا الحسابات السياسية جانبا وانضمت إلى ركب المساعدين الذين قدموا يد العون للتخفيف من وطأة تلك الكارثة الطبيعية، انطلاقا مما عرف بـ”دبلوماسية الكوارث”.
فبادر رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيسبالاتصال هاتفيا بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان للتعزية في ضحايا الزلزال وأرسل مساعدات إنسانية وفرق إغاثة وعمال إنقاذ للبلد الجار، على الرغم من التوتر السائد بين البلدين والذي كاد أن يصل إلى مواجهة عسكرية بسبب خلافات على جزر متنازع عليها والتنقيب عن مصادر الطاقة في البحر المتوسط.
وكأن بوراك أوزوجيرجين السفير التركي السابق لدى أثينا كان يستشرف الواقع حينما قال في خطاب وداع قبيل مغادرته اليونان نهاية العام الماضي: “أتمنى ألا نحتاج إلى حرائق أو زلازل أو كوارث أخرى لتذكرنا أننا جيران”، حسبما نقلت شبكة دويتشه فيله الإعلامية الألمانية.
كما تناست السويد موقف تركيا المعرقل لمسعاها الرامي إلى الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي (ناتو) وسارعت إلى تقديم المساعدة إلى أنقرة، وهو نفس الموقف الذي أبدت أرمينيا استعدادها للقيام به على الرغم من عدم وجود علاقات دبلوماسية مع أنقرة بسبب خلافات تاريخية بين البلدين.
ولم يقصر العراق مساعداته على سوريا فحسب بل أقام جسرا جويا لإرسال المساعدات الإغاثية العاجلة بما فيها الدواء والوقود للبلدين، على الرغم من العمليات العسكرية التي تقوم بها أنقرة في شمال العراق ضد مسلحي حزب العمال الكردستاني.
وقال بيان للمكتب الإعلامي لرئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني: “يأتي هذا في إطار الالتزام العراقي بالتواصل الإنساني مع الشعوب الشقيقة والصديقة، والتضامن مع ضحايا الكارثة الإنسانية”.
كما أرسلت مصر مساعدات طبية إلى تركيا على الرغم من فتور العلاقات بين البلدين منذ سنوات ومرورها بفترات من الشد والجذب وسط تحذيرات من احتمال حدوث مواجهة عسكرية على الأراضي الليبية مؤخرا.
وكان اللافت هو إجراء الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي اتصالا هاتفيا هو الأول من نوعه مع نظيره التركي لتقديم واجب العزاء في ضحايا الزلزال، والإعراب عن تضامن القاهرة مع الشعب التركي في تلك اللحظة العصيبة.
كما أجرى السيسي اتصالا هو الأول بالرئيس السوريبشار الأسد للتعزية وأرسل طائرات تحمل مساعدات طبية لإغاثة المصابين.
ولم تكتف تونس من جهتها بتقديم مساعدات إنسانية لتركيا وسوريا، بل ذهبت إلى ما هو أبعد من ذلك وقررت رفع مستوى تمثيلها الدبلوماسي لدى دمشق، في خطوة رأى مراقبون أنها ربما تكون توطئة لإعادة العلاقات بشكل كامل بين البلدين.
وفي السياق ذاته، جاء موقف الولايات المتحدة التي أعلنت عن تقديم مساعدات بقيمة 85 مليون دولار إلى تركيا وسوريا وقررت تعليق بعض العقوبات المفروضة على دمشق للسماح بإدخال المساعدات الإغاثية والإنسانية في ظل وضع كارثي بسبب ضعف الإمكانات لدى الحكومة السورية.
وحددت واشنطن مدة تعليق العقوبات بـ180 يوما، وهو ما يعتبر وقفا لقانون قيصر الأمريكي الذي يمنع على الدول تقديم دعم لـ”النظام السوري” ويفرض عقوبات عليها في حال خرقت القانون، وذلك لأسباب إنسانية بحتة.
وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية نيد برايس في تصريحات صحافية: “نحن فخورون بالانضمام إلى الجهود العالمية لمساعدة تركيا مثلما سبق أن ساهمت تركيا في كثير من الأحيان عبر خبرائها في عمليات الإنقاذ الإنساني لدول عدة أخرى”.
وأبدت إسرائيل منذ اليوم الأول استعدادها للانضمام إلى حملة الإغاثة والمساعدة الدولية لسوريا حال طلب منها ذلك.
وبعد اتهامات لها بعدم السماح بإيصال المساعدات إلى الشمال السوري، أتاحت حكومة دمشق دخول المساعدات إلى مناطق المعارضة بالتنسيق مع الصليب الأحمر والأمم المتحدة.
كما دفعت المأساة الإنسانية حزب العمال الكردستاني إلى الإعلان عن تعليق “عملياته” في تركيا مؤقتا بعد الزلزال. وقال القيادي في الحزب جميل بايك: “قررنا عدم تنفيذ أي عملية طالما لم تهاجمنا الدولة التركية”.
ويرى محللون أن التحولات في المواقف وإن كانت بدافع إنساني قد تمهد أو تفتح الباب أمام مشهد سياسي جديد على خريطة العلاقات الدولية، وأن كارثة الزلزال ربما تساعد في كسر عزلة الرئيس السوري بشار الأسد وتخفف العقوبات الدولية المفروضة على نظامه.
ونقل موقع المونيتور الأمريكي عن منى يعقوبيان، كبيرة مستشاري المعهد الأمريكي للسلام، قولها إن “الاتجاهات نحو التطبيع جارية بالفعل… من المهم أيضا عدم الخلط التام بين جهود تقديم المساعدة الإنسانية في مواجهة مأساة تاريخية، والتطبيع. هناك بعض الفروق بوضوح”.
ومع مرور الأيام تتلاشى آمال العثور على ناجين تحت أنقاض المباني المهدمة، وتزداد صعوبة الوضع الإنساني على الأرض لا سيما في شمال سوريا. وعلى الرغم من تقديم كم كبير من المساعدات، يعتبر حجم المأساة أكبر بكثير، حيث أعلن برنامج الأغذية العالمي أمس الجمعة نفاد مخزونه في شمال غرب سوريا، داعيا إلى إفساح المجال من جميع الجهات لإدخال المساعدات وسط مخاوف من انتشار الأوبئة.
(د ب أ)