نحن نعيش في عالم يسيّس كل شيء، من الرياضة إلى السياحة، ومن الأوبئة والأمراض إلى توزيع الأمصال والأدوية، ومن استقبال اللاجئين إلى منح التأشيرات. كل شيء يخضع لاعتبارات المصالح والعلاقات والمواقف السياسية، بما في ذلك المساعدات الإنسانية التي أحيانا لا مفرّ من تقديمها وإلا فالعواقب تكون وخيمة. فمن يعتقد أن المساعدات تقدم بوازع إنساني فحسب فهو مخطئ لا محالة. وكانت كارثة الزلزال الأخير المدمر الذي وقع في المنطقة الحدودية بين تركيا وسوريا، والطريقة التي قدمت فيها المساعدات الإنسانية لكل من البلدين تكشف عن تقصير وخذلان يقترب من المؤامرة على الشعب السوري نفسه. بريطانيا مثلا قدمت لأوكرانيا 2.7 مليار دولار، بينما قدمت لتركيا ستة ملايين. السخاء نراه في أوكرانيا لا في أفغانستان ولا سوريا ولا الصومال ولا وكالة الأونروا.
وسنحاول أن نرصد بعض العوائق الموضوعية من جهة لتأخر وصول المساعدات للمنطقة المنكوبة في شمال سوريا، وتلك التي من صنع الإنسان وتكشف عن زيف كبير في مسلكية المجتمع الدولي إزاء تلك الكارثة الإنسانية التي تعتبر أكبر كارثة إنسانية من صنع الطبيعة منذ قرن.
الأسباب الموضوعية
هناك مجموعة عوامل خارجة عن سيطرة الإنسان تضافرت لتفاقم المأساة الإنسانية الناتجة عن الزلزال، خاصة على الجانب السوري.
– قوة الزلزال الأول 7.8 درجة والثاني الذي لحق به مباشرة 7.6 حيث استغرق الزلزالان مدة دقيقتين كاملتين، وهو أمر غير مألوف في الزلازل جعل قوتهما تعادل مئات القنابل الذرية من النوع الذي ضرب على هيروشيما. أضف إلى هذا أن الزلزال ضرب عموديا وأفقيا في الوقت نفسه، على مساحة واسعة ما جعل منطقة الدمار واسعة جدا.
– لسوء الحظ أيضا أن الزلزال ضرب الساعة الثالثة صباحا والناس نيام، فحتى لو كانت هناك مؤشرات لاقتراب الزلزال بذبذبات أرضية لم تكن هناك فرصة للهرب حيث أخذوا على بغتة لم تعطِ أحداً فرصة للهرب.
– منطقة الشمال السوري أصلا تعاني من الدمار بعد 12 سنة من الحرب الداخلية. فلا مناطق المعارضة محصنة ولا أحد يعيرها اهتماما أصلا ولا المدن التي استعادها النظام رممت. فكثير من مباني حلب مثلا متصدعة أصلا ولا أحد يميز بين دمار سببه الزلزال، وآثار الحرب، حيث اختلطت الأمور لكثرة ما تعرض سكان الشمال السوري من دمار وخراب قبل الزلزال، فكيف لهذه المباني المتهاوية أصلا تحمل مثل هذه الهزة الأرضية التي «دكت الأرض دكا».
– تتعرض سوريا كلها لحالة حصار من قبل الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين بعد إقرار قانون قيصر في يونيو 2020. تبعات هذا الحصار طالت الشعب السوري بأكمله، إلا النظام والمقربين منه. فابن سوريا في الولايات المتحدة، أو كندا/ أو ألمانيا لم يعد يستطيع أن يحول فلسا لأهله في أي مكان في سوريا. العقوبات الغربية ضاعفت من مأساة الناس العاديين حيث انزلق سعر الدولار إلى نحو 7000 ليرة سورية، فمن الذي يدفع الثمن؟
– أغلقت المنافذ جميعها على الشمال السوري الخاضع لسيطرة المعارضة، إلا من معبر باب الهوى. وقد حاول مرارا أعضاء مجلس الأمن أن يوسعوا عدد المعابر إلا أنهم جوبهوا بالفيتو الروسي، باعتبار أن ذلك ينتهك السيادة السورية، وأن النظام في دمشق قادر على استلام المساعدات وتوزيعها على المحتاجين كافة، بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية وهو ما لم يقنع أحدا خارج إطار النظام وأعوانه.
تسعة أيام ثقيلة والمساعدات تتدفق على تركيا، والقلة وصلت للشمال السوري. تأخرت المساعدات لتبدأ بعد أسبوع في الوصول إلى المناطق المدمرة في سوريا
– سوريا الدولة العميقة أصلا غير مستعدة لمواجهة مثل هذه الكوارث الطبيعية، حتى من قبل النزاع داخل البلاد والحصار، مثلها في ذلك مثل كثير من دول العالم النامي التي لا تحتفظ بمعدات ثقيلة للطوارئ، ولا بمخازن غذائية وأجهزة بحث وتنقيب وكلاب مدربة لاستخدامها عند الحاجة، فما بالك عندما تكون البلاد في حالة وهن عميق بسبب الحروب والحصار والتدخلات الخارجية.
هذه الأسباب الموضوعية لتعميق جراح الشعب السوري، خاصة في الشمال قبل الزلزال فكيف مع وقوع الزلزال؟
المنظمات الإنسانية ودورها
هناك العديد من المنظمات الدولية التي تعمل تحت مظلة الأمم المتحدة في الميادين الإنسانية، ومن المفروض ألا تتدخل في السياسة، مهماتها محصورة في مجال اختصاصها. جميع هذه المنظمات تعتمد على التبرعات، وقد تكون هناك «ميزانية برنامجية» صغيرة جدا. من بين هذه المنظمات منظمة رعاية الطفولة (يونسيف) ومنظمة الصحة العالمية وبرنامج الأغذية العالمي، وصندوق الأمم المتحدة للسكان، ومنظمة الأغذية والزراعة والمفوضية العليا للاجئين وغيرها. وقد أنشأت الأمم المتحدة مكتبا في مقرها الدائم، يرأسه وكيل أمين عام يدعى مكتب منسق الشؤون الإنسانية وإغاثة الطوارئ، للتنسيق بين المنظمات المتعددة لتجنب التكرار. ولدى مكتب المنسق «صندوق لمساعدات الطوارئ»، بميزانية صغيرة ربما لا تتجاوز الـ300 مليون دولار، لتقديم مساعدات فورية للتعامل مع نتائج كارثة طبيعية أو حركة لجوء أو تشرد نتيجة الحروب. يقوم المكتب بتخصيص مبلغ متواضع إلى أن يتم عقد مؤتمر خاص للدول المانحة لجمع المبلغ المطلوب، الذي قد يصل إلى مليارات عدة كما هو الحال في أفغانستان وسوريا (قبل الزلزال) واليمن والصومال والكونغو وهايتي ومالي وفلسطين ولبنان والسودان وجنوب السودان. ففي حالة سوريا ما بعد الزلزال أعلن مارتن غريفيثس، منسق الشؤون الإنسانية، عن تخصيص مبلغ 50 مليون دولار من هذا الصندوق لإغاثة الطوارئ في سوريا، وخصص برنامج الأغذية العالمي مبلغ 24 مليون للغرض نفسه في ما يتعلق بالغذاء، هكذا تعمل الأمم المتحدة في المجال الإنساني.
أين التقصير في حق الشعب السوري؟
نستطيع أن نقول إن تحرك المجتمع الدولي بدأ فقط يوم الاثنين 13 فبراير أي بعد أسبوع من الكارثة. أسبوع كامل لم يجتمع مجلس الأمن للمشاورات. اجتمع فقط بعد أن التقى منسق الشؤون الإنسانية مارتن غريفيثس، بعد أسبوع من الكارثة بالرئيس السوري بشار الأسد، وضمن موافقته على فتح معبرين إضافيين هما باب السلام وباب الراعي، وكلاهما يقعان تحت سيطرة المعارضة. كان الأمريكيون والبريطانيون يجسون نبض المجلس لاستصدار قرار جديد يشرعن فتح المعبرين، لكنهما وجدا موقفا صلبا من روسيا برفض مثل هذا التوجه، ولذلك تم التوافق وبدأت الشاحنات تعبر من أكثر من معبر بداية من يوم الثلاثاء أي بعد تسعة أيام.
تسعة ايام ثقيلة والمساعدات تتدفق على الجانب التركي، والقلة القليلة وصلت للشمال السوري. لقد تأخرت المساعدات الإنسانية كثيرا لتبدأ بعد أسبوع في الوصول إلى المناطق المدمرة في الشمال السوري. الأوروبيون لم يتحركوا إلا ببطء شديد وكأن الأمر لا يعنيهم، والولايات المتحدة تثاقلت كثيرا قبل أن تخفف من موضوع العقوبات لتسهيل التحويلات للشعب السوري، كانت المناطق المتضررة بحاجة أولا إلى معدات ثقيلة وأجهزة تنقيب وتنصت وبحث في الركام وهو متوفر لدى الدول الغربية أساسا، وليس لدى الأمم المتحدة. ويبدو أن روسيا، عندما يتعلق الأمر بالإنقاذ والمعدات الثقيلة والبحث في الركام تنزلق إلى مستوى دولة من العالم النامي. ولم نسمع أو نشاهد إقامة جسر جوي بين موسكو وحلب لتقديم المساعدات الطارئة والمساهمة في البحث والتنقيب في الركام، كما فعلت الجزائر وتونس في يوم الزلزال نفسه، اللتان لم تنتظرا اجتماعا لمجلس الأمن، بل تحركتا فورا إلى المناطق المنكوبة بما لديهما من أجهزة ومعدات وطواقم مدربة على عمليات الإنقاذ.
لقد خذلت الأنظمة العربية الشعب السوري، حيث تأخرت كثيرا في إرسال المساعدات الفورية وطواقم الإنقاذ والمواد المنقذة للحياة، صحيح أن المبادرات الفردية من لبنان والأردن وفلسطين والعراق بدأت فورا، بعدما تبين للجميع حجم الكارثة إلا أن الجسور الجوية كانت تتجه أولا نحو جنوب تركيا ثم يحول بعضها إلى شمال سوريا كما فعلت السعودية وقطر والإمارات، ما استغرق أياما كان من الممكن اختصارها لو توجهت المساعدات مباشرة إلى المنكوبين. لقد خذل المجتمع الدولي الشعب السوري، وخذله الأوروبيون وخذلته الغالبية الساحقة من الحكومات العربية، التي في غالبيتها لم تفصل بين مقاطعتها للنظام ومد يد العون للشعب السوري العريق والمضياف، وهو في أمس الحاجة إلى تلك المساعدات في الأيام الأولى بعد الزلزال. وقد أشاد الأمين العام غوتيريش بالشعب السوري عندما أطلق صباح الثلاثاء نداء لجمع مبلغ 397 مليون دولار للمساعدات العاجلة، حيث وصفه «بالسخاء والإنسانية حيث استقبل العديد من اللاجئين من دول مجاورة ووفر لهم الحماية وشارك معهم موارده المحدودة». أليس من حق الشعب السوري علينا أن نسدد ديونه التي في رقابنا جميعا؟
القدس العربي