تبدل المناخ الدولي جذرياً بين ما قبل وما بعد “العملية الخاصة” أو #الحرب الروسية ضد #أوكرانيا، ومؤتمر ميونيخ للدفاع والأمن في دورته الأخيرة يعكس بدقة، في وقائعه واهتماماته، هذا التبدل.
عقد مؤتمر العام الماضي في موعده السنوي المقرر، أواخر النصف الثاني من فبراير (شباط) منذ أن بدأ دوراته قبل 60 عاماً. كانت روسيا يومها تحشد قواتها على حدود أوكرانيا وتنفي نيتها مهاجمة هذا البلد، لكنها هاجمته بعد ستة أيام من اختتام المؤتمر الدولي أعماله، لتثير ما يشبه حرباً عالمية، هي الأولى من نوعها في أوروبا منذ نهاية #الحرب_العالمية_الثانية وليبدأ التحول الكبير في الاصطفافات الدولية في ما يشبه نسخة حامية عن الحرب الباردة التي انتهت مبدئياً مطلع تسعينيات القرن المنصرم.
صورة العالم عشية لقاء العام الماضي كانت تبلورت مع وصول دونالد ترمب إلى منصب رئيس الولايات المتحدة الأميركية عام 2016. اتبع ترمب على الفور سياسات خارجية مثيرة، فانسحب من الاتفاق النوويمع إيران وصعد الخلاف مع أوروبا وحلف شمال الأطلسي وقرر تخفيف الوجود العسكري في الشرق الأوسط وتصعيد المواجهة مع الصين على خلفية غزل مضمر مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وغازل رئيس كوريا الشمالية وتقارب مع دول الخليج العربي ومالأ إسرائيل معترفاً بالقدس المحتلة عاصمة لها وبالجولان جزءاً منها، ثم طرح صفقة العصر الشهيرة متخطياً المطلب العربي والفلسطيني بالدولتين. ساد مناخ من الاضطراب على مستوى العالم حول ما تريد الإدارة الأميركية الوصول إليه، مما سمح بتصاعد المواجهة الإسرائيلية- الإيرانية على الأرض وخلال دورة ميونيخ 2018 وبحال من التفلت في نقاط دولية أخرى. كانت إيران مرتاحة لعلاقاتها الأوروبية وإسرائيل مرتاحة لسياسات ترمب. وفي ميونيخ صعد رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك بنيامين نتنياهو إلى منبر المؤتمر وعرض أجزاء من طائرة إيرانية بلا طيار في إشارة إلى العدوانية الإيرانية المتصاعدة في المنطقة. ورد عليه وزير خارجية إيران محمد جواد ظريف في المؤتمر نفسه، واصفاً خطابه بـ”السيرك” وأنه “لا يحق لأحد أن يكون الحاكم الوحيد في المنطقة، فزمن الهيمنة ولى إقليمياً ودولياً”.
عكس خطابا نتنياهو وظريف واقعاً دولياً وإقليمياً متوتراً. زادت إسرائيل وتيرة هجماتها وعملياتها السرية ضد المصالح الإيرانية، وفي المقابل، صعدت إيران من اعتداءاتها على أراضي دول الخليج العربي ودفعت أنصارها إلى شن حملات على هذه الدول انطلاقاً من لبنان والعراق واليمن. بدا الشرق العربي نقطة شديدة السخونة في عالم لم يصل بعد إلى ترسيم حدود علاقاته اللاحقة، غير أن التطورات اللاحقة سمحت للأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش بإطلاق تحذيره الشهير في ميونيخ 2019 معلناً أن “النظام العالمي يتفكك”.
في الأعوام التالية تعثر “دافوس الأمني” كما يطلق على المؤتمر وتأجل مؤتمر 2020 بسبب جائحة كورونا وعقدت دورة 2021 بتقنية الفيديو، وعشية انعقاد دورة السنة الماضية وفيما كانت روسيا تحشد جيشها على الحدود الأوكرانية، كان كثيرون ما زالوا يصدقون موسكو بأن الأمر مجرد مناورات، وأن إعلان وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف في دورة 2018 أن “روسيا تريد أن تكون شريكاً موثوقاً به” لا يزال ساري المفعول. نسي هؤلاء خطاب فلاديمير بوتين الاتهامي للغرب عام 2007 أمام الدول نفسها، واتهامه الغرب بالتوسع شرقاً على حساب المصالح الجيوسياسية الروسية، وكانوا يمنون النفس بأن شيئاً لن يحصل، بمن فيهم غوتيريش الذي جزم بأن “الصراع العسكري في أوروبا لن يحدث… وإن حدث فسيكون كارثياً”.
بعد خطابه في 2007، خاض بوتين حرب جورجيا (أبخازيا وأوسيتيا) ثم ضم القرم وفرض سيطرته على أجزاء من شرق أوكرانيا. صحيح أن الولايات المتحدة بحسب تصريحات مسؤولين فيها، بدأت إعداد الجيش الأوكراني للمواجهة منذ 2014، لكن المناخ الأوروبي والغربي عموماً ظل يتعامل مع بوتين بروحية اتفاق ميونيخ 1938، عندما وافق الأوروبيون (بريطانيا وفرنسا وإيطاليا) على انتزاع إقليم السوديت في تشيكوسلوفاكيا، وضمه إلى ألمانيا النازية. كان ذلك الموقف بمثابة تشجيع لهتلر كي يشن بعد عام حربه الشاملة. لكن بوتين هو من سيتهم خصومه الآن بالنازية ويحدد أهداف هجومه على أوكرانيا بارتفاع النازحين وحل الجيش وتغيير الحكام!
عقدت دورة العام الماضي لمؤتمر ميونيخ ضمن شروط الحضور التقليدية الشاملة. دعيت روسيا إلى المؤتمر كغيرها من الدول. كانت روسيا تحشد قواتها وتشن حملة دعائية واسعة ضد حكومة كييف، فيما أوروبا وأميركا تفصلهما تباينات في المواقف حول أكثر من مسألة. تداعيات النقاش حول دور حلف الأطلسي وتمويله وشيخوخته كانت مستمرة، والخلافات حول العلاقة مع إيران قائمة بين أميركا وثلاثي الاتحاد الأوروبي، وحول دور الصين والتجارة معها. في المؤتمر راهن كثيرون على عدم حصول الهجوم الروسي ونبهوا إلى انعكاساته، لكن لم يكد المؤتمرون ينهون أعمالهم حتى اجتاحت القوات الروسية حدود أوكرانيا باتجاه العاصمة كييف.
تغير العالم منذ تلك اللحظة. فالمعركة الآن تدور في قلب أوروبا وليس في أطراف الشرق الأوسط أو أفريقيا وهي المناطق التي كان مسموحاً تحولها إلى أرض مواجهة بمقتضى تقسيمات الحرب الباردة. عادت الوحدة الأوروبية- الأميركية بسرعة إلى متانتها واستعاد الحلف الأطلسي حضوره بدعم من إدارة أميركية جديدة واحتشدت غالبية دول العالم في الجمعية العامة للأمم المتحدة حول الموقف المبدئي برفض الحرب وحفظ استقلال أوكرانيا وسيادتها ورفض تدخل الدول في الشؤون الداخلية للدول الأخرى. وتركت العقوبات الغربية على روسيا تأثيراتها في الوضع العالمي. انكفأت الصين نسبياً عن دعم روسيا ومثلها فعلت دول “بريكس”. بقيت إيران وحيدة إلى جانب موسكو، على رغم زعمها الحياد والتزام القانون الدولي في القضية الأوكرانية، ودعمتها بالمسيّرات لتثير غضباً غربياً إضافياً وعقوبات أشد أطاحت احتمالات تجديد الاتفاق النووي.
تحولت منصة ميونيخ من مكان يجمع الأضداد للحوار والتعاون كما فعلت منذ مطلع التسعينيات، إلى جبهة تضم الحلفاء الذين يرفضون سياسة روسيا في أوروبا الشرقية وسياسة إيران ومشروعها النووي وتدخلها خارج حدودها.
لم تدعَ روسيا إلى المؤتمر هذه السنة وكذلك إيران، فيما دعيت الصين بشخص وزير خارجيتها وانغ يي. أوكرانيا كانت الأبرز حضوراً، ومعها وجوه من المعارضة الإيرانية الآتية من مؤتمر عقدته في واشنطن.
لم يدع بوتين لأنه “قطع علاقته بالحضارة” على قول كريستوفر هويسن رئيس المؤتمر، وفي المقابل حضرت الولايات المتحدة رئاسة وحكومة وبأكثرية أعضاء مجلس الشيوخ. ولم يكن ذلك من دون معنى، فميونيخ صارت بعد عام على حرب أوكرانيا مقياس ريختر للعلاقات الكونية، والانقسام الدولي لم يسبق له مثيل حتى في زمن المعسكرين، أما حصيلته، فستبقى رهناً بتطورات المعركة في أوكرانيا أولاً، وباحتمالات تصاعد التوتر والمواجهة مع إيران ثانياً، على أن الأولوية ستبقى للساحة الأوكرانية باعتبارها مركز الصراع الآن بين شرق وغرب يخوضان معركتهما المصيرية.
كان مؤتمر ميونيخ هذا العام منبراً للانقسام والمواجهة المفتوحة بين أوروبا وأميركا من جهة وموسكو المغيبة من جهة ثانية، ولم تخفف من حدة هذه المواجهة دعوة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في افتتاح المؤتمر إلى الحوار مع روسيا. فماكرون نفسه شدد أن ليس الآن وقت الحوار مع موسكو، فهو متروك كما يبدو إلى ما بعد معركة الأرض الفاصلة.
اندبندت عربي