ستؤدي محاكمة المسؤولين عن الكارثة عبر قضاء لبناني مستقل إلى المساعدة في حماية الأموال العامة، واحتواء الفساد، وتمكين الإصلاحات، وحماية المواطنين.
لطالما طالبت المعارضة اللبنانية والحكومة الأمريكية و”الاتحاد الأوروبي” بتحقيق العدالة ومحاسبة المسؤولين عن انفجار مرفأ بيروت الذي وقع في عام 2020، وتسببَ على الأقل في مقتل 218 شخصاً وإصابة 7000 آخرين بجراح وإلحاق أضرار بالممتلكات بقيمة 15 مليار دولار، تاركاً ما يُقدَّر بنحو 300 ألف شخص بلا مأوى. ومع ذلك، لم تُتخَذ سوى إجراءات قليلة لدعم هذه المطالبات. ومنذ أن تولى القاضي طارق البيطار التحقيق، كان بمفرده إلى حدٍ كبيرٍ في محاربة نظام سياسي وقانوني شديد الفساد يحميه «حزب الله».
التطورات الأخيرة
قبل الشهر الماضي، كان القاضي البيطار قد أُرغم على تعليق تحقيقه لأكثر من عامٍ بسبب عدم التوصل إلى حل لطلبات التنحي التي قدّمها ضده سياسيون متورطون في القضية. وما إن تمكّنَ من استئناف التحقيق في كانون الثاني/يناير، أمر بالإفراج عن خمسة معتقلين، لكنه باشر بعد ذلك باتخاذ إجراءات ضد عددٍ من كبار الشخصيات السياسية والأمنية والإدارية والقضائية.
ورداً على ذلك، غيّر مدعي عام التمييز غسان عويدات رأيه فجأةً، بعد أن كان قد تنحى عن القضية في عام 2020 كأحد المُدعى عليهم المذكورين، وأمر بالإفراج عن “كافة” المعتقلين في التحقيق، ووجّه اتهامات إلى البيطار بسبب “التمرد على القضاء”. ثم أصدر قرار حظر سفر بحق البيطار، وأعطى توجيهات لجميع الأجهزة الأمنية بتجاهل أي مراسلات من القاضي. أما أحد المعتقلين الذين أطلق عويدات سراحهم، وهو محمد زياد العوف الذي كان سابقاً رئيس مصلحة الأمن والسلامة في المرفأ ويحمل الجنسيتين الأمريكية واللبنانية، فقد هرب على الفور إلى الولايات المتحدة عبر مطار بيروت الدولي، على الرغم من إخضاع كافة المعتقلين لقرار حظر السفر عقب إخلاء سبيلهم.
وحالما أدرك البيطار أنه سيعجز عن استدعاء أي شخص للاستجواب أو إصدار أي أوامر للمسؤولين بتنفيذ قراراته من دون تعاون عويدات، علّق مجدداً جميع جلسات الاستجواب إلى أن يتم التوصل إلى حل. وعبر القيام بذلك، أخذ أيضاً في الاعتبار واقع أن المضي قدماً في الاستجواب سيتطلب من القضاء إسقاط تهم “اغتصاب السلطة” التي رفعها عويدات ضده.
إن هذه الحملة ضد البيطار وتحقيقاته ليست جديدة. ففي أيلول/سبتمبر 2021، هدد المسؤول البارز في «حزب الله» وفيق صفا هذا القاضي في مكتبه، وهي حادثة أعقبتها اشتباكات مسلحة بين عناصر من «حزب الله» ومسلحين آخرين في حي الطيونة في بيروت. وفي وقت لاحق، رفض وزير المالية يوسف الخليل التوقيع على أمر بتعيين قضاة جدد في محكمة التمييز، بينما حاول القاضي حبيب مزهر، المحسوب على حركة “أمل” الشريكة السياسية لـ«حزب الله»، تولي التحقيق في قضية المرفأ. كما تعرّضَ البيطار لدعاوى قضائية رفعها ضده عدد من المسؤولين الذين كان قد استدعاهم للاستجواب، ثم أُوقِف عن العمل. وفي ذلك الوقت، طلب وزير العدل هنري خوري من “مجلس القضاء الأعلى” إيجاد بديل بينما كان البيطار موقوفاً عن العمل. إلا أن المجلس كان منقسماً للغاية وفشل في الاتفاق على مرشح، فعاد البيطار إلى العمل.
الدعوة للمساءلة
دفعت الإجراءات الأخيرة التي اتخذها عويدات “ائتلاف استقلال القضاء”، الذي تشكل في أوائل عام 2021 كتحالف مؤلف من مجموعات مختلفة معنية بحقوق الإنسان، إلى المطالبة بإقالته على أساس أن قراره بالإفراج عن كافة المعتقلين في القضية يشكل انقلاباً على الشرعية القانونية والقضائية. ثم حذّر الائتلاف من العبث بالأدلة في ملف التحقيق، وطالب باتخاذ إجراءات لحماية القاضي البيطار. كما أشار في بيانه إلى ما يلي: “بالتوازي مع ذلك، أصدرت ثلاثٌ وثلاثون جماعة لبنانية في الشتات ومنظمات محلية و«جمعية أهالي ضحايا انفجار المرفأ»بياناً مشتركاً يطالب المجتمع الدولي بفرض عقوبات مالية وحظر سفر على جميع الذين يعرقلون التحقيق. ودعت هذه الجهات أيضاً إلى تشكيل بعثة لتقصي الحقائق تكون تابعة لـ «مجلس حقوق الإنسان» في «الأمم المتحدة» من أجل تعزيز التحقيق”.
وشملت قائمة معرقلي التحقيق عدداً من المسؤولين الحكوميين الحاليين والسابقين:
• غسان عويدات
• وزيرا الأشغال السابقان يوسف فنيانوس وغازي زعيتر
• وزير الداخلية السابق نهاد المشنوق
• رئيس الوزراء الأسبق حسان دياب
• مدير عام أمن الدولة طوني صليبا
• مدير عام الأمن العام عباس إبراهيم
• القاضي غسان خوري
• وزير المالية السابق علي حسن خليل
بإمكان إضافة وزير العدل هنري خوري إلى هذه القائمة أيضاً.
وكرر بيانٌ مشتركٌ صادرٌ عن ثلث أعضاء مجلس النواب نداء الائتلاف. فاستنكر بعض النواب من كتلتَي “المعارضة” و”التغيير” تحركات القضاء باعتبارها انقلاباً يهدف إلى “تعزيز سلطة النظام البوليسي”. كما طالبوا بمحاسبة عويدات عن الانتهاكات التي ارتكبها عند تدخله في تحقيقات المرفأ، وأعربوا أيضاً عن دعمهم للقاضي البيطار، رافضين أي محاولة تهدف إلى تجريده من صلاحياته عبر تعيين قاضٍ بديل في القضية.
ولا تتعلق هذه الدعوات والنداءات بالبيطار بحد ذاته، أو حتى بتحقيقات المرفأ. فبالأحرى، يمثّل التحقيق والقاضي الذي يقوده آخر فسحة أمل وآخر مجال للمساءلة في لبنان، أما الكفاح من أجل الحفاظ عليهما فيشكل معركة غايتها الحفاظ على الاستقلالية الأوسع نطاقاً التي تتمتع بها السلطة القضائية المدنية والإدارية في لبنان. ومن خلال القيام بذلك، يأمل المؤيدون حماية الأموال العامة، ومحاسبة المسؤولين الفاسدين، وحماية حريات المواطنين. ونظراً إلى الوضع الأمني الهش في لبنان، يعني غياب المساءلة تراجُع السلامة والاستقرار وانعدام الأمل في الإصلاح.
لطالما كانت السلطة القضائية أساس مؤسسات الدولة اللبنانية. فعندما سعى النظام السوري المحتل ولاحقاً «حزب الله» إلى السيطرة على لبنان بعد الحرب الأهلية، استهدفا النظام القضائي أولاً، عبر التأكد من عدم محاسبة الطبقة السياسية ما بعد الحرب على جرائمها المتنوعة.
والبيطار هو اليوم أحد القضاة القلائل المحترفين والصادقين الذين تبقّوا في هذا النظام، وما زال مستعداً للمخاطرة بسلامته وحريته من أجل إعلاء العدالة. فقد أعلن في وقتٍ سابقٍ من هذا الشهر أنه لن يتخلى أبداً عن التحقيق حتى يتم إصدار لائحة اتهام. وهو بحاجة إلى الحصول على المزيد من الدعم من أجل بلوغ هذا الهدف. بإمكان واشنطن تقديم المساعدة عبر قيامها بما يلي:
- معاقبة الذين يعرقلون التحقيق، ابتداءً من عويدات ووزير العدل خوري (انظر أعلاه للحصول على قائمة أكثر تفصيلاً).
- حث مجلس النواب اللبناني على تعزيز استقلالية القضاء وشفافيته. كان مشروع قانون مخصص لهذه الغاية “قيد المناقشة” من قِبَل “لجنة الإدارة والعدل” منذ سنوات، وقد حان الوقت للمضي قدماً به. فبدون القيام بإصلاحات في النظام القضائي، لن يتم إجراء أي إصلاحات أخرى.
- زيادة الضغط من أجل حل قضايا الاغتيال، فضلاً عن التحقيقات الأخرى المتعلقة بالمساءلة الجنائية واستقلالية السلطة القضائية. وعلى وجه الخصوص، لم يُحمَّل أي شخص المسؤولية عن مقتل الناشط البارز وناقد «حزب الله» لقمان سليم في عام 2021، ولا عن الاغتيالات الثلاثة البارزة التي أعقبت ذلك. باستطاعة الولايات المتحدة، بصفتها الجهة المانحة الأجنبية الأكبر فعلياً للمؤسسات اللبنانية، أن تستخدم مساعداتها كوسيلة للضغط على المسؤولين من أجل تسهيل هذه التحقيقات، ويتعين عليها القيام بذلك. فلا بد من محاسبة القتلة، أو يمكن توقّع المزيد من الاغتيالات إذا لم يحدث ذلك. ولن تتبدد ثقافة العنف في لبنان طالما يسود الإفلات من العقاب.
- الكشف علناً عن كافة المعلومات المتعلقة بقضية المرفأ. وفقاً لتقريرٍ صادر عن وكالة “رويترز” في تموز/يوليو 2021، قدّر محققو “مكتب التحقيقات الفيدرالي” الأمريكي الذين تقصوا عن الانفجار أن كماً يساوي 552 طناً مترياً من نترات الأمونيوم انفجر في ذلك اليوم، أي أقل بكثير من الكمية التي وصلت إلى الموقع على متن سفينة الشحن المستأجرة من روسيا في عام 2013، والتي كانت تبلغ 2754 طناً مترياً. فماذا حدث للكمية الباقية؟ وإذا تم إزالتهامن المرفأ، فمَن فعل ذلك وماذا كانت الأهداف؟ من أجل المساعدة في الإجابة على هذه الأسئلة وغيرها، يجب رفع السرية عن التقرير الكامل الخاص بـ”مكتب التحقيقات الفيدرالي”، وعلى إدارة بايدن توفير أي صور متاحة من الأقمار الصناعية لمواجهة حملة التضليل التي يطلقها «حزب الله» بشأن مثل هذه الأمور.
- دعم الدعوات لإجراء تحقيق دولي، بما فيها تلك الصادرة عن “جمعية أهالي ضحايا انفجار المرفأ”. حتى لو سُمح للقاضي البيطار بمتابعة القضية، فستستمر الطبقة السياسية والأمنية في إعاقة تحقيقه بشكل دائم. لذلك، قد يشكل التحقيق الدولي الذي يرافق تحقيقه الطريقة الوحيدة للمضي قدماً في النتائج التي يتوصل إليها.
- دفع القوى الأمنية إلى حماية القاضي البيطار والضحايا والناشطين. بينما تُواصل واشنطن دعمها للجيش اللبناني والمؤسسات الأمنية الأخرى، عليها أن تتأكد من أن هذه الجهات تحمي الضحايا والمدافعين عنهم، وليس المعتدين. وإلى جانب القاضي البيطار وعائلات ضحايا المرفأ، سيحتاج النشطاء السياسيون اللبنانيون إلى المزيد من الحماية في ظل انهيار مؤسسات الدولة. وقد أقدمت القوات العسكرية على حماية بعض المتظاهرين في عام 2019، لكن ليس داخل المناطق الشيعية المغلقة التابعة لـ«حزب الله». وفي المرحلة القادمة، على المؤسسات الأمنية عدم استدعاء النشطاء واستجوابهم، بل مساعدتهم.
حنين غدار
معهد واشنطن