في بلد قل ما أدين فيه سياسيون بالفساد رغم انتشاره في جميع المؤسسات تقريبا، لا تبدو مساعي عدد من القضاة في محاسبة المتورطين ذات جدوى في ظل الحصانات والحسابات السياسية.
بيروت – يعكس طلب رئيس الوزراء اللبناني نجيب ميقاتي من وزير داخليته بسام مولوي عدم تنفيذ أوامر قضائية شدة تدخل السياسة في القضاء وهو ما يحرم لبنان، حسب محللين، من التعافي الاقتصادي والاجتماعي.
وأظهرت وثائق متداولة على صفحات التواصل الاجتماعي، تم التحقق من صدقيتها، أن ميقاتي طلب من قوات الأمن عدم تنفيذ أوامر قاضية لبنانية وجهت في الآونة الأخيرة اتهامات لبنكيْن، في ما وصفه منتقدون بأنه دليل جديد على التدخل السياسي في عمل القضاء.
ووجه ميقاتي رسالة إلى مولوي طلب فيها من الأجهزة الأمنية “عدم تنفيذ القرارات الصادرة عن القاضية والنائب العام الاستئنافي” في جبل لبنان غادة عون. وقال ميقاتي إن قرار عون يمثل تجاوزا للسلطة. وأصدر مولوي توجيها طلب من مديرية الأمن العام اللبناني وقوى الأمن الداخلي عدم التصرف بناء على أوامر عون.
وتتابع القاضية عون التحقيقات في القطاع المالي اللبناني منذ انهياره في 2019 بعد عقود من الفساد الحكومي والإنفاق المسرف وسوء الإدارة المالية. ونشرت عون على تويتر صورة لوثيقة رسمية يأمر فيها وزير الداخلية الجهات الأمنية بعدم التعاون معها بناء على توجيه من رئيس الحكومة.
◙ تورط كبار السياسيين في الفساد ربما يكون السبب الأهم وراء عرقلة التحقيقات القضائية وتنفيذ قرارات القضاة
وغردت تعليقا على الوثيقة، قائلة “تدخل غير مسبوق في عمل القضاء، ومناصرة من قبل وزير الداخلية للفريق المدعى عليه على حساب الجهة المدعية. معقول وحضرته كان قاضي. في نصف الشعب اللبناني حُرم من جنى عمره ورزقه ومدخراته ألا يعنيك ذلك؟ كيف تسمح لنفسك بالتدخل في مسار الدعوى. هذا انهيار كلي للعدالة في هذا البلد المسكين”.
وأصدر مجلس القضاء الأعلى في لبنان الخميس بيانا طالب فيه ميقاتي ومولوي بالتراجع عن قراراتهما التي تتعارض مع مبادئ الفصل بين السلطات واستقلال القضاء. وقال نزار صاغية من منظمة المفكرة القانونية للحقوق المدنية إن الخطوات أظهرت كيف تحولت أسس أصول الملاحقة القضائية إلى سلاح حكومي للتخلص من القضاء.
واشتكى أكبر قاض لبناني وأعضاء آخرون في القضاء في الماضي من التدخل السياسي في الإجراءات القضائية. كما أن القضاء منقسم حول كيفية التعامل مع التحقيق في انفجار مرفأ بيروت عام 2020. وفي إطار تحقيقاتها المالية، جمدت عون العام الماضي أصول خمسة بنوك كبرى وأعضاء مجالس إدارتها على الرغم من عدم توجيه اتهامات لهم بارتكاب أي مخالفات.
كما اتهمت حاكم البنك المركزي رياض سلامة العام الماضي بالإثراء غير المشروع في قضية تتعلق بتحقيقات فساد أوسع في لبنان وخمس دول أوروبية على الأقل. والمزاعم ينفيها سلامة الذي اتهمه قاض لبناني آخر الخميس بالإثراء غير المشروع.
ووجهت القاضية عون الاثنين الماضي لبنك سوسيتيه جنرال في لبنان ورئيسه التنفيذي تهمة “غسيل الأموال” كجزء من تحقيقها في المعاملات بين البنوك التجارية والبنك المركزي. ونفى البنك الاتهامات وقال إنه لم يرتكب أي مخالفات.
وكانت عون قد وجهت الاتهام نفسه في الثالث عشر فبراير لبنك عودة وبعض مسؤوليه التنفيذيين. وقال البنك إنه يحترم جميع قوانين البنوك في لبنان والخارج.
ويرى مراقبون أن تورط كبار السياسيين في الفساد المالي ربما يكون السبب الأهم وراء التدخل السياسي لعرقلة التحقيقات القضائية وتنفيذ ما يصدر عن القضاة.
◙ تورط كبار السياسيين في الفساد المالي ربما يكون السبب وراء التدخل السياسي لعرقلة التحقيقات القضائية
ويشير المراقبون إلى أن فساد النخبة السياسية والمالية في لبنان وشهوتهم إلى السلطة وعدم كفاءتهم قد دفعت البلد المضطرب بالفعل إلى الهاوية، بينما يواجه الفقراء والطبقة الوسطى انهيارًا اقتصاديًا وتلاشي الخدمات. ويؤكد هؤلاء أنه رغم انحدار قيمة الليرة اللبنانية بنسبة 90 في المئة، لا يزال ذلك غير كاف ليعكس انحدارها بالكامل.
وأتى الانهيار الاقتصادي الذي يعصف بلبنان منذ ثلاث سنوات على مؤسسات حكومية نهشها الفساد والمحسوبية لعقود، فلم تعد قادرة على تقديم سوى ما قلّ من خدمات لمواطنين منهكين يبحثون عن سُبل للاستمرار في بلد يبدو الأمل بالنهوض به ضئيلاً.
ومنذ بدء الانهيار، تتكرّر إضرابات موظفي القطاع العام الذين تدهورت رواتبهم جراء انهيار سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار في السوق السوداء. وانعكس تدهور مؤسسات الدولة على الخدمات المقدمة للمواطنين الذين بات من الصعب عليهم حتى استخراج إخراجات قيد أو جوازات سفر، إذ ليس هناك حبر أو أوراق كافية.
ويطالب صندوق النقد الدولي وآخرون بالإصلاح قبل تسليم أموال المساعدات. لكن أولئك الذين في قمة السلطة لا يمكنهم الاتفاق على رئيس جديد للجمهورية، ما يعمق الأزمات.
وكتبت صحيفة الغارديان البريطانية تقول “يبدو أن هناك احتمالية أقل لموافقتهم على الإصلاح الذي يرون أنه في الأساس تنازل عن السلطة والامتيازات. وكثير منهم من أمراء الحرب الذين ربما يشعرون أنهم قادرون على الإثراء، حتى لو انزلق لبنان إلى الصراع مرة أخرى، كما يخشى البعض الآن أن يحدث”.
العرب