كما هو الحال مع روسيا، قد لا ترغب دول الخليج العربي في مواجهة بكين إذا اندلع الصراع في آسيا، ولكن على واشنطن تذكيرها بأنه حتى الإجراءات المالية الضيقة قد تسهم في التصدي لأي تحركات صينية ضد تايوان.
عندما بدأت روسيا مساعيها لغزو أوكرانيا قبل عام من الزمن، كانت جميع الأسباب تدعو للاعتقاد بأن الحصيلة النهائية ستكون كارثية على الغرب. فقد كانت موسكو متفوقة على كييف بعتادها وعديدها. ولم يفعل الغرب الكثير رداً على عمليات الاستيلاء الروسية السابقة على الأراضي في جورجيا في عام 2008 وأوكرانيا في عام 2014، وكان الاقتصاد الأوروبي مستعبداً للطاقة الروسية. وإذا حدث أن استجمعنا بشكل ما الشجاعة الكافية للرد، فمن المؤكد أن النتيجة ستكون حرباً بين “حلف شمال الأطلسي” (“الناتو“) وروسيا وربما حرباً نووية – أو هكذا ساد التفكير في ذلك الوقت.
ولا يُخفى أن الغزو الروسي لأوكرانيا جريمة شنعاء كان العالم بأسره ليكون أفضل حالاً بدونها. ومع ذلك، فقد سارت الأمور بشكل أفضل بالنسبة لأوكرانيا أكثر مما كان يأمله أي شخص في هذا الوقت من العام الماضي، وذلك بفضل الشجاعة الأوكرانية في ساحة المعركة والجبهة الداخلية، وربما المستوى المفاجئ من التصميم الغربي والمساعدة المادية. والأكثر من ذلك، أن الحرب، على الرغم من كل مآسيها، قد تحمل فوائد غير متوقعة للأمن القومي الأمريكي: فقد كشفت الكثير عن نقاط قوة الغرب ونقاط ضعفه، ويمكن لهذه الدروس أن تساعد الولايات المتحدة في الاستعداد للصراع التالي بين القوى العظمى، لا بل من الأفضل منعه، إذااختارت واشنطن الاستفادة منها.
وأهم هذه الدروس هو أن الغرب يملك ما يلزم من الإرادة والقدرة للوقوف بوجه قوة نووية عازمة على توسيع رقعة أراضيها – وهو أمر لم يكن واضحاً على الإطلاق في بداية الحرب. ويقيناً أن المهمة في أوكرانيا لم تنته بعد، ومن الضروري أن يساعد الغرب كييف في الوصول بالحرب إلى انتصار أوكرانيا في النهاية. ولكن بنفس القدر من الأهمية أن ننظر في كيفية تكرار النجاح النسبي الذي تحقق في العام الماضي في سيناريوهات أخرى،والأهم من ذلك، إذا حاولت الصين الاستيلاء على تايوان.
وهذا لا يعني مجرد ضمان تمتع تايوان بالوسائل للدفاع عن نفسها وأن الولايات المتحدة في وضع يمكنها من تقديم مساعداتها بشكل مفيد، ولكن الدول الغربية الداعمة لتايوان مستعدة للعواقب الاقتصادية المترتبة عن الصراع في آسيا، والتي قد تبدو بسيطة بالمقارنة مع عواقب الحرب في أوكرانيا.
على الولايات المتحدة وشركائها عدم الاكتفاء بالتخطيط لفرض ضغوط اقتصادية على الصين، بل عليها التخطيط أيضاً لحماية نفسها من نفوذ بكين الاقتصادي بحد ذاته. على واشنطن أن تركز أولاً على العوامل المؤثرة بهذا الصدد، مثل استخراج المعادن الأرضية النادرة، التي تعتبر حيوية لقطاعات الدفاع والتكنولوجيا الفائقة وتعتمد بشكل شبه كامل على سلاسل التوريد الصينية التي سيكون من المستحيل استبدالها بسرعة في وقت الصراع. ومثل هذه الخطوات مجتمعة، لن تعزز فقط الاستعداد الغربي للرد على تحرك صيني في تايوان، بل تردع بكين مثالياً عن القيام بهذه المحاولة.
وخلال الصراع في أوكرانيا، تعرقلت جهود الغرب لعزل روسيا بسبب نقص الدعم من الشركاء خارج أمريكا الشمالية وأوروبا. فقد قبلت هذه الدول إلى حدٍّ كبير تأطير روسيا للصراع على أنه تأليب موسكو ضد حلف “الناتو“، في حين أنها في الواقع حرب عدوان سافر ضد أوكرانيا. ورفضت هذه البلدان أيضاً المساعي الغربية لتصوير الحرب من منظور أخلاقي، وبدلاً من ذلك أعطت الأولوية لمصالحها القومية، وقد استفادت جيداً في حالات كثيرة من شراء النفط الروسي بسعر أرخص بسبب العقوبات الغربية.
غير أن مشكلة ضم هذه الدول إلى جانب الولايات المتحدة، بما في ذلك القوى الجوهرية مثل تركيا والهند والمملكة العربية السعودية، في صراع يشمل الصين قد تكون أكثر صعوبة، بالنظر إلى الدور المهيمن لبكين في التجارة العالمية. وسيتطلب إقناعها التخلي عن فكرة “معنا أو ضدنا” أو التحالفات القائمة على القيمة وبدلاً من ذلك تحديد الإجراءات الأضيق التي يمكنها اتخاذها، والتي تخدم مصالحها بدلاً من تقويضها. كما أن توضيح العواقب الاقتصادية للصراع في آسيا قد يدفعها إلى حث بكين على الإحجام عن أي تحرك ضد تايوان. وفي حين أن دولة غنية مثل الإمارات العربية المتحدة قد تتردد في إدانة بكين على نطاق واسع، إلا أنها من المرجح أن تموّل مناجم الأرض النادرة، ومرافق تصنيع الرقائق، والمشاريع المماثلة خارج الصين قبل أي صراع – وهي خطوات ستعني أكثر بكثير من أي تصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة.
أما الدرس الرئيسي الثاني الذي يمكن استخلاصه من حرب أوكرانيا فهو أن جيوش الغرب لم تكن مستعدة لها. وعلى الرغم من كل الاهتمام الذي أولي لقرار ألمانيا بشأن إرسال دباباتها من طراز “ليوبارد 2″ إلى أوكرانيا، إلّا أن الولايات المتحدة هي التي وفّرت الحصة الكبرى من المساعدات العسكرية لأوكرانيا. إن التصور بأن هذه المساعدة قد قوّضت الاستعداد الأمريكي للصراعات في مناطق أخرى هو عامل رئيسي في تراجع الدعم للجهود الحربية بين بعض الجمهوريين في الولايات المتحدة، والذي قد يكون عاملاً مهماً في تحديد مسار الصراع هذا العام والعام المقبل. ومع ذلك،فإن الحقيقة المرة هي أن قطاع الدفاع الأمريكي لن يكون مستعداً لصراع في آسيا حتى بدون تحويل العتاد إلى أوكرانيا، إذ تشير المناورات الحربية الأخيرة إلى أن الولايات المتحدة ستنفذ من الذخائر العالية الدقة في غضون أسابيع قليلة من أي حرب مماثلة.
وحتى إذا تم تجديد القاعدة الصناعية الدفاعية الأمريكية، فإن ذلك لن يكفي لتزويد الغرب بالإمدادات اللازمة عند نشوب أكثر من صراع ضخم واحد. ومع ذلك، فإن ضرورة اليقظة ضد العدوان الروسي لن تتضاءل حتى مع زيادة احتمال حدوث صراع في آسيا. والنتيجة المترتبة عن هذه الحقائق هي أنه من الضروري أن تكون أوروبا مستعدة للاضطلاع بدور أكبر في أمنها الخاص. وهذا لا يعني ببساطة إنفاق المزيد على الدفاع بالتوازي مع الولايات المتحدة، بل تنشيط صناعتها الدفاعية بحيث لا يتوجب بعد الآن شحن الأنظمة التي بإمكان واشنطن فقط توفيرها اليوم، أي معظم هذه الأنظمة، عبر المحيط الأطلسي. وفي حين يخشى البعض من أن يشكل تعزيز صناعة الدفاع الأوروبية وازدياد قدراتها تهديداً لحلف “الناتو“، إلا أن ذلك قد يكون ضرورياً للحفاظ على المصداقية المستمرة لـ “حلف الأطلسي” إذا احتاجت الولايات المتحدة إلى تحويل انتباهها بجدية أكبر نحو آسيا.
لعل التاريخ يتذكر، بعد عقود من الزمن، الصراع الأوكراني على أنه “الحرب قبل الحرب“، أي صراع استبق انفجارات أخرى أكثر حدة في القرن الواحد والعشرين الحافل بالاضطرابات. وإذا صحّ ذلك، فقد يعتمد مسار تلك الحروب اللاحقة على ما إذا كان الغرب سيتعلم من دروس هذه الحرب.
مايكل سينغ
معهد واشنطن