يتفق بعض المحللين العسكريين والاستراتيجيين على أن الحرب في أوكرانيا لن تُحسم قريباً، وأن أوضاع المعارك القائمة في شرق أوكرانيا بين الجيشين الروسي والأوكراني تشير إلى احتمالية وصول تلك المعارك الي حالة من التيبس العسكري أو الـ stalemate بحيث تبقى الأوضاع العسكرية على أرض الواقع دون تغييرات كبرى ويبقى الميزان العسكري متوازناً بين الطرفين دون استطاعة طرف فرض إرادته العسكرية على الآخر.
وتعود تلك الحالة من اللا فوز واللا هزيمة إلى عدة عوامل أهمها تصميم روسيا على تحقيق مكاسب عسكرية وسياسية من الحرب ونجاحها حتى الآن في الاستفادة من بعض علاقاتها الاستراتيجية ببعض الدول المؤثرة في أقاليم أخرى غير أوروبا، ومن الجانب الآخر تصميم أوكرانيا، مدعومة من شعبها، على الدفاع عن كامل أراضيها، بالإضافة إلى إصرار الولايات المتحدة الأمريكية وأعضاء حلف “الناتو” في أوروبا على دعم أوكرانيا في حربها الدفاعية، دون التورط في مواجهة مباشرة مع موسكو، والاتجاه إلى عزل روسيا دبلوماسياً وحصارها اقتصادياً في أوروبا والعمل على الاستغناء عن نفطها وغازها الطبيعي تدريجياً.
هذه العوامل في مجملها قد تطيل أمد الحرب إلى أعوام وبسببها سيصعب حسم المعارك عسكرياً. كما يتوقع البعض لهذه الحرب أن تتحول إلى نموذج الحرب الكورية التي اندلعت في عام 1950 وانتهت بوقف إطلاق النار فقط في عام 1953 دون التوصل إلى تسوية سياسية بين الأطراف المتصارعة.
وعلى ذلك، فإن الموقف الحالي في الحرب وبقاءها على هذا الوضع قد أدى بالتأكيد إلى فوز الولايات المتحدة الأمريكية بعدة مكاسب استراتيجية. وتستند تلك المكاسب إلى فرضية أن واشنطن لا تحتاج إلى أن تحقق أوكرانيا انتصاراً عسكرياً ساحقاً على روسيا للانتفاع من تلك المكاسب، فيكفي لها أن يبقى الوضع متقارباً بين الطرفين على الجبهة دون أن يحرز طرف نصراً عسكرياً على الآخر، بمعنى أن عدم انتصار روسيا دون هزيمتها العسكرية قد حقق لواشنطن بالفعل مكاسبها.
وتبرر تلك الفرضية عدم موافقة الولايات المتحدة الأمريكية على إرسال قوات عسكرية إلى أوكرانيا للدفاع عنها أو رفضها إقامة منطقة حظر جوي فوق روسيا وإحجامها عن توريد بعض الأسلحة الهجومية إلى كييف حتى لا تستخدمها في الهجوم على العمق الروسي، علماً بأن أوكرانيا لم تكن تاريخياً من الدول ذات الأهمية الاستراتيجية للولايات المتحدة الأمريكية، فلقد غضت الأخيرة -وحليفتها بريطانيا- الطرف عن استحواذ الاتحاد السوفيتي على شرق أوروبا بما فيها أوكرانيا بعد الحرب العالمية الثانية، حيث لم تكن لواشنطن مصالح كبرى في هذه الدول تدفعها لمواجهة موسكو مقارنة بدول مثل ألمانيا.
وبالتالي، فإنه حتى انتصار روسيا عسكرياً على أوكرانيا في هذه الحرب قد لا يُعرِّض أمن الولايات المتحدة الأمريكية للخطر ولا يغير من ميزان القوة الدولية ولا من هيمنة واشنطن على النظام الدولي في الفترة الراهنة. ويمكن تقسيم المكاسب الاستراتيجية الأمريكية من الحرب إلى ثلاث مكاسب مترابطة كلها تعزز من موقف واشنطن الدولي وتنافسها الجيوسياسي مع الصين:
1- إضعاف روسيا وعزلها دولياً: بالرغم من أن مسئولية وقوع الحرب تقع على عاتق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إلا أن الولايات المتحدة الأمريكية وجدت في الحرب فرصة سانحة لإضعاف نظامه، وعزله أوروبياً وتشتيت انتباهه وتحجيم تدخله في بعض الأقاليم الهامة استراتيجياً، فدعم واشنطن العسكري وحلفاءها الأوروبيين لأوكرانيا هو استنزاف لروسيا وإنهاك لقدراتها، وبالتالي إضعاف دورها الدولي وإفقادها كثيراً من مقوماتها كدولة كبرى.
ولا يعد ذلك الأمر جديداً في تاريخ العلاقات الأمريكية-الروسية، إذ حدث من قبل عند احتلال الاتحاد السوفيتي لأفغانستان عام 1979، حيث انتهزت الولايات المتحدة الأمريكية الفرصة في وقتها- بمساندة بعض حلفائها- لاستنزاف موسكو عسكرياً من خلال دعم المجاهدين الأفغان بالسلاح والأموال في حربهم ضد المحتل السوفيتي في ذلك الوقت.
ولتقوية موقفها تجاه روسيا في حرب أوكرانيا، دعمت واشنطن من تواجدها العسكري في أوروبا وخاصة دول شرق أوروبا مثل بولندا، ورفعت تعداد قواتها من 80.000 جندي إلى .000100 جندي. وربما تعتقد الولايات المتحدة الأمريكية أن ظروف الحرب في أوكرانيا بسبب إطالة مدتها وإبرازها لضعف قدرات موسكو العسكرية حتى الآن قد تفرض أوضاعاً داخلية في روسيا تسمح بتغير نظامها السياسي واستبعاد الرئيس بوتين من الحكم، وإن كان ذلك الأمر يبدو مستبعداً حتى الآن.
2- تجديد دماء حلف الناتو: عن غير قصدٍ، أحيا الهجوم الروسي على أوكرانيا حلف الناتو مرة أخرى وعظّم من أهدافه الدفاعية والردعية وأظهر ضرورته الاستراتيجية لأمن أوروبا، وهو الأمر الذي استفادت منه واشنطن، خصوصاً بعد تزايد أصوات بعض الأجنحة السياسية في الحزب الجمهوري المتسائلة عن جدوى وأهمية الحلف.
فبسبب ضراوتها وحجم التدمير الذي أحدثته في أوكرانيا، أعادت الحرب كثيراً من المخاوف التاريخية الخاصة بأمن أوروبا وسياسات موسكو التوسعية في شرق أوروبا وإرث تدخلاتها العسكرية والسياسية في الشئون الداخلية لتلك الدول. وربما ظن كثيرون قبل الحرب في بعض الدول الغربية سواء على المستوى الحكومي أو على المستوى الشعبي، أن تلك الأيام وقد ولّت وأنه لم يعد للحروب مكاناً في علاقات الدول الأوروبية بعضها ببعض، ومن بينها علاقات أوروبا بروسيا بسبب مصالحها الاقتصادية المشتركة.
وقد أدت حالة الحرب إلى تخلى كلٍ من فنلندا والسويد عن حيادهما الاستراتيجي وطالبتا قيادات الناتو رسمياً بانضمامهما إلى الحلف طمعاً في الحصول على مظلته الأمنية في مواجهة روسيا، وبالتالي يزيد حلف الناتو من حدوده المباشرة مع موسكو بانضمام فنلندا إليه. وأيضاً بدأ بعض أعضاء الحلف، مثل ألمانيا، في زيادة ميزانياتهم العسكرية ورفعها لتصل إلى ما يزيد عن 2٪ من حجم الناتج المحلي الإجمالي لاقتصادهم، الأمر الذي كانت تطالب به واشنطن حلفائها في الحلف قبل الحرب.
كما رفع الحلف من ميزانيته المدنية بنسبة 27.8٪ لتصل إلى ما يزيد عن 370 مليون يورو وزاد ميزانيته العسكرية بنسبة 25.8٪ لتصل إلى قرب 2 مليار يورو. وأخيراً، بيّنت الحرب أن أوروبا لا تزال تحتاج إلى مظلة واشنطن الأمنية وردعها للصراعات الأوروبية-الأوروبية وقيادتها للحلف. ولذلك عظّمت واشنطن استفادتها من هذه القناعة في الفترة الأخيرة وعملت على زيادة وتيرة التنسيق العسكري وتبادل الخبرات بين أعضاء حلف الناتو في أوروبا وحلفائها في شرق آسيا مثل اليابان وكوريا الجنوبية واستراليا، ويؤدي هذا التنسيق الاستراتيجي إلى توسيع نفوذ واشنطن وزيادة قدراتها في مواجهة موسكو وبكين.
3- تحجيم الصين: يعد إضعاف روسيا وإنهاك قوتها في الحرب هو إضعاف للصين أيضاً، وهو الأمر الذي تستفيد منه واشنطن. فبسبب الحرب في أوكرانيا، قد تفقد الصين حليفاً مهماً لها كان يدعمها دولياً وينسق معها المواقف الدبلوماسية، وبالتالي أدى سوء تقدير الرئيس بوتين في الحرب إلى توريط الصين معه، إلى حد ما، في “مستنقع” أوكرانيا.
ولذلك، فللصين مصلحة في ألا تنهزم روسيا عسكرياً وتنهار قواها، وبالتالي عليها مساندتها ودعمها في الحرب، غير أن ذلك قد يضعف من موارد الصين على المديين المتوسط والطويل، والأكثر من ذلك يزيد من توتر علاقاتها بالولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا والتي لا تزال تحتاج إليهما وبشدة للوصول إلى أسواقهما والحصول على استثماراتهما، والانتفاع من تكنولوجياتهما المتقدمة.
وبالرغم من أن الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الرئيسيين في أوروبا، مثل ألمانيا وفرنسا، لا تتوافق رؤاهم ومصالحهم بشكل مطلق حول الصين، إلا أنه إذا أقدمت الصين على إحداث تغيير نوعي في دعمها لروسيا من مجرد دعم دبلوماسي إلى دعم عسكري، كما تتواتر الأنباء من واشنطن هذه الأيام، فإن الدول الأوروبية ستتجه حتماً إلى سياسات أكثر تصادماً مع الصين وخصوصاً في المجال الاقتصادي، من حيث الحد من الاستثمارات الصينية في أوروبا وبالذات في المشاريع ذات الصبغة الاستراتيجية، وخاصة في دول شرق ووسط وشمال أوروبا التي تؤثر عليها الحرب في أوكرانيا بشكل مباشر.
ولعل إقدام الصين على دعم موسكو عسكرياً يعد مخاطرة كبيرة، غير أن ذلك الدعم سيؤدي حتماً إلى زيادة تقارب الرؤي بين الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا حول الصين، إضافة إلى دخول بكين في حالة من العزلة الدولية مع موسكو، وهو ما يعد انتصاراً استراتيجياً للولايات المتحدة الأمريكية.
وعلى ذلك، تعد كل تلك التطورات الدولية مكاسب استراتيجية حازت عليها الولايات المتحدة الأمريكية بسبب الحرب في أوكرانيا ودخولها العام الثاني. وستستغلها واشنطن لا محالة في محاولاتها لإبقاء قيادتها للنظام الدولي الذي ساهمت بشكل رئيسي في تحديد ملامحه وقيمه منذ الحرب العالمية الثانية واستمرت في ذلك بعد انتهاء الحرب الباردة.
وبالرغم من أن تلك التطورات تضع الولايات المتحدة الأمريكية في موقع متميز في صراعها الحالي مع روسيا وتنافسها القوي مع الصين، إلا أنه توجد احتمالية ليست بسيطة لتبديد تلك المكاسب في حالة حدوث تغيرات سياسية داخلية في الولايات المتحدة الأمريكية وعودة الأجنحة اليمينية المحافظة في الحزب الجمهوري لسدة الحكم في البيت الأبيض والكونجرس بعد انتخابات عام 2024، حيث ترغب هذه القوى في إنهاء انخراط الولايات المتحدة الأمريكية في العالم وإلغاء تعهداتها الدولية، وأن تعود مرة أخرى إلى سياستها الانعزالية كما كانت عليه في فترة طويلة من تاريخها السياسي.
مركز الاهرام