كانت الصين محل ترقب عالمي كبير منذ بدء الحرب الروسية في أوكرانيا، ما بين توقعات بأن تشارك بقوة في صراع أصبح عالمياً بالفعل، وتنضم إلى موسكو في مساعيها إلى إعادة ترتيب العالم، وما بين ضغوط غربية متواصلة لدفعها نحو حسم خياراتها ما بين السير في الاتجاه السابق أو دفعها إلى مواقف مضادة لموسكو.
لكن بكين اختارت موقفاً دقيقاً وصفه بعض المراقبين بالمتوازن، ووصفه آخرون بالحياد الأقرب إلى موسكو، وقوام هذا الموقف إبداء معارضتها للحرب ورفض استخدام القوة العسكرية، لكنها رفضت إدانة موسكو وتوقيع عقوبات غربية ضدها في الوقت نفسه، ويدور تحليل موقفها حول أنها لا تريد هزيمة موسكو لكنها تستفيد أكثر من روسيا منهكة وضعيفة بل وربما تابعة لها.
ومن ناحية أخرى كانت هناك توقعات أخرى شاركت فيها شخصياً، ومضمونها أن بكين من أكثر الأطراف المرشحة للقيام بدور وسائطي بالنسبة إلى موسكو، لكن بكين انتظرت عاماً كاملاً وأصدرت مبادرتها بمناسبة مرور عام على الحرب، وفي الحقيقة فإن الشواهد وردود الفعل أثبتت أنها كانت محقة في الانتظار والتريث، وأن التفاعلات ما زالت معقدة.
أبعاد المبادرة
من الإنصاف القول إن المبادرة الصينية حاولت مخاطبة غالب أبعاد المسألة الأوكرانية، فقد اشتملت على 12 بنداً، كان أولها احترام سيادة كل الدول، وضرورة الالتزام الصارم بالقانون الدولي المعترف به، بما يشمل أهداف ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة وضرورة الحفاظ على سيادة كل الدول واستقلالها ووحدة أراضيها وأن الكل متساوٍ في المجتمع الدولي.
ثانيها ضرورة التخلي عن عقلية الحرب الباردة، وأنه يجب ألا يكون ضمان أمن دولة على حساب أمن دولة أخرى، ولا يكون أمن منطقة بتعزيز أو توسيع التكتلات العسكرية.
وثالثها وقف الأعمال العدائية والتأكيد أن الصراع والحرب لا يفيدان أحداً، وأن على كل الأطراف التحلي بالعقلانية وضبط النفس وتفادي ما يؤجج التوترات ومنع تدهور الأزمة كي لا تخرج عن السيطرة.
ورابعها استئناف محادثات السلام، وهنا حرصت المبادرة على إيجاد حل للأزمة الإنسانية وحماية المدنيين وعدم تسييس المساعدات الإنسانية، كما أفردت بنداً لحماية المدنيين وتبادل أسرى الحرب.
وفى البند السادس، وهو من أهم البنود، الحفاظ على المنشآت النووية، وأنه لا يجوز التعامل مع الأسلحة النووية ولا التهديد بها كذلك، بل وسَّعت بكين من رفضها ليضم الأسلحة الكيماوية والبيولوجية، أي جميع أسلحة الدمار الشامل.
ولم تغفل المبادرة بند تسهيل تصدير الحبوب، ولا الحفاظ على استقرار سلاسل الصناعة والتوريد، وضرورة المحافظة على النظام الاقتصادي العالمي القائم، ومعارضة استخدام الاقتصاد كوسيلة أو سلاح لتحقيق أهداف سياسية، وطرحت بشكل صريح أنه لا يجوز تطبيق العقوبات الاقتصادية الأحادية الجانب، بل أن تكون صادرة من مجلس الأمن الدولي، وأخيراً أعربت عن استعدادها لتقديم المساعدات في إعادة إعمار أوكرانيا.
ردود الفعل
مثلما جاء طرح بكين مبادرتها متضمناً التقدير بأن الأمور ستأخذ بعض الوقت، جاءت ردود الفعل حتى الآن أقرب إلى الفتور بعض الشيء، فالطرف الروسي ممثلاً في خارجيته أعرب عن تقديره لجهود الصين، مؤكداً أن موسكو ملتزمة احترام ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي والإنساني بما لا يعزز أمن دولة على حساب دولة أخرى، ثم تحدث بعد ذلك بأيام قليلة حول أن من الصعب وقف الحرب، وأن الطرف الثاني الأوكراني ومن ورائه الغرب يريد مواصلتها ولكنه ليس جاهزاً بعد، أما في كييف فقد عبر مستشار الرئيس الأوكراني ميخائيل بو دولياك عن أن حرب روسيا في بلاده ستنتهي من دون تقديم أية تنازلات، مؤكداً ضرورة حصول بلاده على المساعدات المناسبة، ومع ذلك فنظراً إلى وجود ترتيبات للقاء الرئيس الأوكراني نظيره الصيني بعد أسابيع عدة فمن الواضح أن الجانب الأوكراني أبدى اعتراضاته من دون كيل أي اتهامات لبكين.
وقد تصدرت واشنطن حملة التشكيك والتحفظ ضد المبادرة الصينية، فذكر مستشار الأمن القومي جيك سوليفان أن الوثيقة كان من الممكن أن تتوقف عند النقطة الأولى وهي احترام سيادة جميع الدول، مستكملاً أن الحرب قد تنتهي غداً إذا أوقفت روسيا مهاجمة أوكرانيا وسحبت قواتها، وجاء ذلك أيضاً في وقت تواترت تصريحات لنائبة الرئيس كاميلا هاريس ووزير الخارجية بلينكن حول مخاوف من أن تتورط الصين في مزيد من الدعم العسكري والاقتصادي لموسكو.
الجانب الأوروبي كانت مواقفه أقل حدة من واشنطن، إذ جاء الرئيس الفرنسي ماكرون الأكثر ترحيباً، بينما عبرت وزيرة الخارجية الألمانية عن ترحيب مشروط بضرورة انسحاب القوات الروسية، وشارك الرئيس الألماني شتاينماير أيضاً في تحديد الشروط حيال هذه المبادرة.
من ناحية أخرى، قال مسؤول السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل إنه لا يريد رفضها قبل انعقاد اجتماع مجلس الأمن – الذي أخفق كما هو متوقع – مضيفاً أن المبادرة ليست خطة سلام بل موقف تعبر فيه الصين عن تأكيدها جميع المواقف التي اتخذتها منذ بدء الحرب.
وأكملت مفوضة الاتحاد الأوروبي أوروسولا فون دير لاين أن الصين ما زال عليها تقديم مزيد من الأدلة التي تفيد أنها لا تعمل لصالح روسيا، ولكنها أضافت ملاحظة إيجابية هي أن الصين أكدت للقارة الأوروبية بهذه المبادرة أنها ليست طرفاً مشاركاً في هذه الحرب، وهو الأمر الذي ما زالت واشنطن تلمح له كما أشرنا من قبل.
من منظور أشمل
كما أشرنا من قبل فقد طرحت بكين وثيقتها بنهجها الحذر المعتاد، مؤكدة أن الأمور ستأخذ بعض الوقت، والمعضلة في هذا الصراع الحالي – وهو ما أشرنا إليه منذ أشهر عدة – أن هذه الحرب تحولت إلى حرب استنزاف ومعركة صفرية، فكل طرف يريد القضاء التام على خصمه والمواصلة حتى النهاية، وفي ظل هذه الأوضاع تتراجع الخيارات الرشيدة، وتصعب بشدة فرص التفاوض والحلول السلمية، وتتحفظ أطراف الصراع تجاه أية جهود للوساطة، والمفارقة أن الأطراف في هذا النوع من الصراعات لا يستطيعون التفاوض من دون وساطة تحفظ ماء وجه أحدهما أو كليهما.
والحقيقة أن ما نراه أمامنا يعبر بدقة عن هذه المعضلة، بل لعلها ستصبح نموذجاً للدراسة والتحليل بهذا الصدد، فطرفا الحرب المباشران موسكو وكييف أصدرا ردود فعل عدة مرحبة بتحفظ، مع التشكيك في إمكانية التفاوض لكنهما، كييف أولاً ثم موسكو، لا تعتبران الوقت ملائماً بعد، وكل طرف يراهن على استكمال صموده والقضاء على خصمه في ساحة المعركة، وكذا فعلت الأطراف غير المباشرة الداعمة لكييف، أي الغربية، فمن يريد منهم كواشنطن التدمير الكامل لموسكو شكك في حياد بكين، وواصل التشجيع الصريح والضمني لكييف على مواصلة القتال، ومن يراوح حول ضرورة هزيمة موسكو من دون القضاء عليها تماماً كباريس وبدرجة أقل برلين حالياً، جاءت مواقفه بين الترحيب وبعض الشكوك ولكن بترك مسافة لمراجعة الموقف، وهو ما فعلته مفوضة الاتحاد الأوروبي بدقة متناهية وكأنها تعبر بالشكل الأفضل عن الموقف الأوروبي الذي يميل إلى تحقيق توازن معين بين الاعتبارات المختلفة، والذي يتواصل نزيفه وخسائره بمواصلة هذه الحرب.
لكن ثمة فوائد عدة للمبادرة الصينية، فقد سجلت كثيراً من النقاط والمبادئ التي تؤكد بها بكين أنها ستحصل على تقدير واحترام كثير من دول العالم التي لا يريحها استمرار هذا القتال العبثي، والذي يسبب كثيراً من الخسائر للجميع من دون استثناء، كما سجلت الصين موقفاً شكك في الدعاية الأميركية بأنها منحازة إلى موسكو، والأهم من كل هذا أنه بينما تواصل موسكو وخصومها استنزاف أنفسهم تواصل بكين بناء اقتصادها وقوتها في كل المجالات، مع حضور دولي أكبر، وتؤكد أنها المستفيد الأكبر من هذه الحرب حتى الآن.
وفى إطار الأمرين السابقين تقدم الصين نفسها كنموذج للقطب الدولي الجديد والإمبراطورية المعاصرة التي تبني السلام والقواعد الأخلاقية في التعامل الدولي، ولكن خلافاً للمزايا التي حققتها بكين من هذه المبادرة فإنه حتى اللحظة الراهنة يبقى التعبير الأكثر دقة وهو أن الصراع ليس جاهزاً بعد لتسوية تفاوضية، وليس واضحاً بعد كم من الوقت والدمار سيستغرق هذا.
اندبندت عربي