في حال نجح حزب العدالة والتنمية في تركيا برئاسة رجب طيب أردوغان في تجاوز التحدي الذي يفرضه تحالف “الطاولة السداسية” المعارض ومرشحه الموحد كمال كليجدار أوغلو زعيم حزب الشعب الجمهوري في الانتخابات القادمة، ستكون الأردوغانية قد وضعت أقدامها بثبات في العقد الثالث، لتقود الدولة التركية حتى انتخابات 2028، في أطول قيادة تاريخية لشخصية سياسية تركية منذ انهيار السلطنة العثمانية.
ولكن معركة الانتخابات القادمة ليست بالهينة، نظراً إلى تعقيدات المشهد السياسي والتكتيكات التي تتبعها المعارضة لهزيمة “القبطان/ الرئيس”، كما يطلق على أردوغان نسبة لأسرته التي ارتبطت بالملاحة البحرية. وإذا ما كتب لتحالف المعارضة النجاح، فإنه سيطوي بذلك صفحة حزب العدالة والتنمية من الحياة السياسية التركية، وربما تلاشى الحزب، ليعيد الإسلاميون إنتاج أنفسهم في تشكيل حزبي آخر، لأن حزب العدالة والتنمية هو صنيعة أردوغان، فصله على مقاسة انطلاقاً من بلدية إسطنبول حتى انتخابات 2003 التي أوصلته إلى سدة الحكم.
لذا، فإنه من غير المستغرب قيام المعارضة بالنقل الحرفي لاستراتيجية أردوغان السياسية، حيال زلزال مرمرة في عام 1999، الذي ضرب مناطق في غرب إسطنبول والمناطق المجاورة، وأودى بحياة 19 ألف نسمة حينها، الأمر الذي أحدث تحولاً مفصلياً في نظرة السكان تجاه الأحزاب الحاكمة حينها، وخيبة الأمل من قدرتها على القيام بدورها لإغاثة المنكوبين. وكان أردوغان قد استغل الحدث، وأسس حزبه السياسي ليقفز به إلى سدة الحكم قبل عشرين سنة من اليوم.
أما زلزال فبراير (شباط) 2023 فهو أشبه بـ”القيامة الصغرى”، مقارنة بزلزال 1999، ففي ضوء الأرقام الرسمية حتى ساعة كتابة هذا المقال، أعلن عن مصرع 44 ألف نسمة، فيما تعرض أكثر من مئة ألف شخص لإصابات مختلفة، وعصف الزلزال بحياة 20 مليون إنسان في عشر ولايات تركية. وأمام ضعف الاستجابة الرسمية، لأسباب عدة، منها عدم قدرة فرق الإغاثة من الوصول إلى المناطق المتضررة نظراً إلى حجم الدمار الذي تعرضت له الطرق الرابطة بين مختلف المناطق المنكوبة، وعدم تكليف الجيش التركي المؤهل للقيام بمواجهة الطوارئ، وجد زعماء المعارضة فرصتهم للنزول إلى أرض المعركة الانتخابية مبكراً وتحميل أردوغان مسؤولية الكارثة، متهمين حكومته بالفشل.
الوعود بين “الستة” و”القبطان”
وعلى رغم أن الكوارث والأزمات يفترض بها أن تسهم في تعزيز الوحدة الوطنية، وتعليق الاستقطاب السياسي، مثلما حدث إزاء الانقلاب الفاشل في عام 2016، فإن “تحالف الستة” اختار التصعيد لضيق وقت الحملات الترويجية في انتخابات باتت وشيكة سواء تمت في 14 مايو (أيار) أو في 18 يونيو (حزيران) المقبلين. ونظراً إلى حجم الأخطاء التي بات بإمكان المعارضة تصيدها، لم يكن بمقدورها عدم استغلالها في السباق الانتخابي، مثل فداحة الأضرار التي ترتبت عن الفعل البشري في فساد عقود البناء، وعدم التزام الشركات بشروط البناء المتوافقة مع طبيعة المنطقة الزلزالية.
وترافق زلزال 1999 الذي كان سبباً في وصول أردوغان، مع أزمة اقتصادية خانقة، تماماً مثل زلزال فبراير الماضي. ولأن للزلازل السياسية وقعاً أكبر على مصائر الناس من تلك التي تفرضها الزلازل الطبيعية، فإن ما سيتمخض عن نتائج صناديق الاقتراع سيحدد توجهات تركيا للعقد المقبل.
استطلاعات الرأي الانتخابية التي سبقت الزلزال تفاوتت بين تخلف وتعادل وضع أردوغان وحزبه مع تحالف الستة المعارض.
وخلال العقد الأخير تآكلت شعبية أردوغان بفعل ارتفاع كلفة المعيشة، وتراجع قيمة الليرة التركية إلى عشر قيمتها خلال عقد، وارتفاع مستويات التضخم السنوي إلى 80 في المئة لتنهار معه وعود أردوغان للأتراك التي أطلقها في بداية العقد الثاني من حكمه، بتحويل بلدهم إلى واحد من أكبر عشر اقتصادات في العالم بحلول العام الحالي، بما في ذلك زيادة نصيب الفرد من الناتج القومي الإجمالي إلى 25 ألف دولار، إلا أن الواقع يشير إلى أن معدل دخل الفرد انخفض بمقدار ألفي دولار، ليستقر اليوم عند تسعة آلاف دولار، وموقع الاقتصاد التركي يحتل المرتبة العشرين ضمن الاقتصادات الكبرى.
عروض أردوغان لمواجهة الأزمة الاقتصادية تفاوتت بين زيادة 50 في المئة للحد الأدنى للأجور، وبناء نصف مليون مسكن لمحدودي الدخل، وإلغاء شرط سن التقاعد، مما مكن مليوني عامل تركي من البدء في المطالبة بمعاشاتهم التقاعدية، وذلك أكسبه بعض النقاط في استفتاءات الرأي. وبعد وقوع الزلزال واصل أردوغان عروضه المغرية للسكان، حيث أعلن عن منح كل أسرة متضررة 530 دولاراً، والشروع في بناء مئتي ألف وحدة سكنية خلال عام بقيمة مئة وخمسين مليار دولار تسلم مجاناً للأسر المتضررة.
وتشكك المعارضة بقدرة الحكومة على إنجاز وعودها، مثل القول إن مستويات التضخم المتزايدة والارتفاع المستمر في الأسعار ستلتهم أي زيادات في الأجور، أو تلك المتصلة باستحالة قدرة الحكومة على بناء وحدات سكنية مجانية للسكان في المناطق المتضررة خلال عام.
وتركز المعارضة في وعودها الانتخابية على وضع نهاية لعقدين من الاستقطاب والانقسامات بين المجموعات السكانية لصالح العودة إلى طبيعة النظام العلماني الأتاتوركي، ونهاية عقدين من الأردوغانية الاستبدادية التي شهدت تقليص حرية الصحافة، وحقوق الإنسان، وسيادة القانون، وتميزت بسياسة خارجية جلبت لتركيا مزيداً من العداوات مع شركائها التقليديين، بما في ذلك الموقف من سوريا والخلافات مع أوروبا وأميركا، وهي انتقادات يمكن أن تضر بصورته بين الناخبين العلمانيين، وأولئك الذين يعطون أولوية للتعاون الدولي والدبلوماسية.
مؤيدو أردوغان ما زالوا قوة مؤثرة في الشارع التركي وهم خليط من مختلف المشارب السياسية، وعلى رأسهم المحافظون والمتدينون الذين يرون فيه مدافعاً عن قيمهم ومصالحهم، وينسبون له الفضل في تحسين الاقتصاد التركي، وتحديث البنية التحتية للبلاد، وتعزيز مكانة تركيا العالمية، ويذكرون بسنوات الركود التي عاشتها تركيا في تسعينيات القرن الماضي، حيث وصلت نسب التضخم إلى 150 في المئة، وتمكن أردوغان خلال أول سنتين من حكمه من خفضه إلى مستوى 10 في المئة. ويرى المحللون السياسيون أن في جراب أردوغان كثيراً لاستغلال كارثة الزلزال لصالحه، منها أن الأتراك لن يقبلوا تغيير القبطان في الوقت الذي تتعرض فيه سفينتهم للعواصف العاتية.
وفي نظر عديد من المراقبين فإن كاريزمية أردوغان ما زالت قادرة على دغدغة نبض الشارع التركي، الذي خبر وعوده ومدى قدرته على تنفيذها، في مقابل وعود المعارضة التي يصعب الركون إليها بعد عقدين من الغياب. ويقول بعض المراقبين إن أردوغان يجيد مخاطبة شعبه، ويبدي التعاطف، ويعترف بضعفه أمام ناسه، ويعتذر، ويتحرك بحزم لمعاقبة المقصرين، حتى وإن كانوا أقرب المقربين منه، وهذه جميعها صفات تميز “الناجي السياسي” الذي يجيد إعادة تقديم نفسه لناخبيه كل مرة بشكل متجدد.
صحيح أن ظروف 2023 تشبه ظروف 1999 التي كانت سبباً بمجيء أردوغان، ولكن في هذه الانتخابات لا تتوفر شخصية معارضة بكاريزمية أردوغان، حتى إن رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو، عضو حزب الشعب الجمهوري، الذي كان ينظر إليه كندٍّ لأردوغان، وفرصة المعارضة للفوز، يتعرض لآثار الحكم القضائي الذي صدر بحقه في 2022، على رغم أن الحظر السياسي المتضمن في الحكم ما زال بانتظار التزكية من محكمتي الاستئناف والنقض.
ويبقى أمل المعارضة معلقاً بشخص كليجدار أوغلو لوضع نهاية للأردوغانية السياسية، فإن تقييم السيرة الذاتية يشير إلى تعرض الرجل للفشل في حياته السياسية قبل أن يصل إلى قيادة أكبر أحزاب المعارضة، فهل سيكون بمقدوره قلب المعادلة السياسية التركية؟ أم أن 20 عاماً من حكم أردوغان كانت كفيلة بتعميد “أتاتوركية جديدة” واءمت بين مصالح العلمانيين والمحافظين والمتدينين، وبين مصالح الفئات الغنية والعاملة والفئات الشعبية، وحافظت على التعددية التركية؟
اندبندت عربي