المنتصر في الحرب الروسية ـ الأوكرانية سيحدد ملامح النظام العالمي

المنتصر في الحرب الروسية ـ الأوكرانية سيحدد ملامح النظام العالمي

خلال سنوات الحرب الباردة في النصف الثاني من القرن العشرين وحتى أوائل القرن الحادي والعشرين تحدثت حكومات ومحللون عسكريون وأكاديميون وروائيون عن نشوب حرب عالمية ثالثة نووية بسبب أزمة بين الروس والأميركيين. وفي تحليل نشرته مجلة «ناشيونال إنترست» الأميركية، قال المحللان الأميركيان لورانس جيه كورب وستيفن سيمبالا، إن أي فشل في استراتيجية الردع المتبادل بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي طوال سنوات الحرب الباردة كان يمكن أن يؤدي إلى دمار غير مسبوق للحضارة الإنسانية، حتى إن أحد الكتاب قال إن الناجين من مثل تلك الحرب كانوا سيحسدون الموتى.

ولكن هذا السيناريو المرعب لم يحدث لأن القادة الأميركيين، من هاري ترومان حتى جو بايدن، حرصوا على تجنبه. ولكن الرئيس بايدن قال مؤخرا إن الرد الروسي على الدعم الغربي بقيادة الولايات المتحدة لأوكرانيا يمكن أن يوسع نطاق الحرب الروسية في أوكرانيا.

ويقول كوربي مساعد وزير الدفاع الأميركي سابقا والباحث في مركز التقدم الأميركي للأبحاث، وسيمبالا أستاذ العلوم السياسية في جامعة بنسلفانيا الأميركية، إن وجود الديمقراطية الليبرالية والنظام العالمي كله على المحك في الحرب الروسية الأوكرانية. فالمنتصر في هذه الحرب هو من سيحدد ما إذا كان القانون الدولي والحكومة التوافقية والكرامة الإنسانية ستزدهر وتنجح في منطقة أصبحت الآن حرة لكنها كانت في وقت من الأوقات جزءا من الاتحاد السوفياتي السابق.

وبحسب المحللين الأميركيين، فإن الصراع الدائر في أوكرانيا حاليا عبارة عن نسخة بطيئة لصراع عالمي جديد يتطور في أوروبا الشرقية، وليس حربا عالمية شاملة. وتكمن أهمية الحرب في أوكرانيا في حقائق الجغرافيا. فهذه الحرب نقلت القتال إلى أوروبا، وعلى بعد مسافة قصيرة من بعض أغنى دول العالم وأكثرها سلمية. وهناك أوجه شبه كثيرة بين تلك الحرب والحروب الأوروبية السابقة وبخاصة حرب الشتاء التي شنها الاتحاد السوفياتي ضد فنلندا في نوفمبر (تشرين الثاني) 1939، وبخاصة في الأسابيع الأولى للحرب الأوكرانية.

وسيحتفل بوتين بالنصر إذا ما سمح له أي اتفاق سلام بالاحتفاظ بأي مساحة من الأراضي الأوكرانية. فالحكام من نوعية بوتين يستطيعون ادعاء تحقيق النصر مهما كانت نتيجة الحرب الحقيقية. في الوقت نفسه فمن غير المحتمل أن يعيد بوتين أي أرض احتلها طواعية، كما فعل صدام حسين عام 1990، عندما كان يركز بالفعل على غزو الكويت. فمغامرة بوتين في أوكرانيا ستحدد مصيره، حسب تحليل نشرته وكالة بلومبرغ للأنباء للكاتب الروسي ليونيد بيرشيدسكي. ويقول بيرشيدسكي إن أي مقارنة تاريخية هي نوع من الامتداد للأحداث لأن التاريخ لا يعيد نفسه، مضيفا أن حرب روسيا ضد أوكرانيا ليست فقط مجرد سلسلة من الاشتباكات العسكرية التكتيكية، وإنما حرب يخوضها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ضد كل أسس نظام الدول الأوروبي القائم الذي تمت دعوته في وقت من الأوقات للانضمام إليه، وتراث الحضارة الغربية. فبغزوه لأوكرانيا نقل بوتين نفسه من قائمة القادة الأوروبيين إلى قائمة قادة آسيا.

ويقوم مفهوم بوتين للأوراسية على أساس إقامة قيم نظام روسي مستبد يستند إلى نسخة عصرية من الإمبراطورية الروسية السابقة لكي يحل محل أي نظام أوروبي حالي يستند إلى الديمقراطية السياسية واقتصادات السوق. وعلى عكس الصين، التي أقامت مؤسساتها الاقتصادية لكي تستطيع التكامل مع الاقتصاد الغربي، لم يطور الزعيم الروسي الأدوات التي تسمح له بتكامل اقتصادي أوسع مع باقي أوروبا. وبدلا من ذلك عزل بوتين الاقتصاد الروسي في هيكل مالي يسيطر عليه لكنه راكد. هذا الأمر ينطوي على صراع قوي وحرب حول القيم. فبوتين ينظر للغرب الديمقراطي ليس فقط باعتباره عقبة أمام استعادة روسيا لعظمتها السابقة، وإنما أيضا بأنه يقدم للعالم مجموعة

متدهورة من القيم والإرشادات السياسية والأخلاقية.

وإلى جانب الصين، تحظى الحرب الروسية ضد أوكرانيا بدعم إيران وكوريا الشمالية. ويجمع بين الدول الأربع العداء للولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين والآسيويين، انطلاقا ليس فقط من حسابات استراتيجية وإنما أيضا من القيم المعادية للديمقراطية الشعبية. ويعلن قادة هذه الدول أنفسهم ودون خجل طموحهم إلى الحكم الاستبدادي والتوسع العسكري ورفض حقوق الإنسان والهروب من أي محاسبة على إساءة استعمال السلطة. ومثل كل أنظمة الحكم المستبدة، فعندما يواجهون قوى مناوئة داخل مجتمعاتهم، يلقون باللوم في فشلهم على النفوذ الأجنبي.

ومع ذلك فحرب الأفكار الحالية لا تقتصر فقط على ممارسات الدول الأجنبية ولا الجماعات والتنظيمات غير الرسمية المعادية للمصالح الأميركية والقيم الغربية، وإنما تدور داخل الديمقراطيات الغربية نفسها. فمؤيدو الأفكار

غير الديمقراطية، يجدون جمهورا مؤيدا لهم داخل الولايات المتحدة وغيرها من الدول بسبب وسائل الاتصال العالمية التي وفرتها التكنولوجيا الحديثة. فبعض التطبيقات تقدم محتوى سياسيا مغريا، ورسائل يمكن أن تؤدي إلى انقسام الشعوب حول الآيديولوجيات والهوية الوطنية والعرقية وغيرها من السمات. وهناك طوفان الفلسفات المثيرة للانقسام يتدفق من أقبية تجار الكراهية إلى الروافد العليا لوزارات الخارجية.

ويمكن أن تؤدي القدرة على حشد الغوغاء اعتمادا على روايات خطأ أو مثيرة للأحداث إلى نشوب صراع أهلي يمكن أن يعرض النظم السياسية للخطر. كما لم يعد الإرهابيون يفجرون فقط المباني، وإنما يمكنهم أيضا تفجير الإجماع الوطني حول القيم الأكثر أهمية التي تميز بين القادة الديمقراطيين الشرعيين والحكام البربريين المستبدين.

ويختتم الكاتبان الأميركيان كوربي وسيمبالا تحليلهما بالقول إن حرب بوتين ضد الحضارة الغربية تحت لافتة الأوراسية الجديدة، هي عودة إلى عالم أسوأ سواء من الناحية النظرية أو العملية. الصراع الحالي يدور داخل وعبر حدود الدول بما في ذلك الصدام بين أفضل الأفكار بشأن المجتمع المدني ودروس أسوأ تشويه للتاريخ. من المهم تذكر أن الأفكار السيئة تستطيع التدمير تماما كما تفعل القنابل الموجهة؛ وهو ما يحتم على إدارة الرئيس بايدن إبقاء الاتصالات مع روسيا مفتوحة، مع استمرار برنامج تحديث الترسانة النووية الأميركية.

الشرق الاوسط