مع الإعلان عن استئناف العلاقات بين السعودية وإيران، أمس الجمعة، في صفقة توسطت فيها بكين، بعد سنوات من الصراع الدبلوماسي وحرب قادتها طهران بالوكالة ضد الرياض، رحبت واشنطن بالاتفاق الذي يحقق بعض أهدافها الأمنية، لكنها أيضاً تبدو قلقة على ضعف نفوذها في المنطقة، فماذا تعني هذه الخطوة لواحدة من أكثر التنافسات أهمية في الشرق الأوسط، وكيف تنظر الولايات المتحدة إلى دور الصين في تحقيق هذا الانفراج، وبماذا تفكر إسرائيل في كل هذا؟
تتنوع التقييمات الأميركية حيال الاتفاق الذي رعته الصين بين السعودية وإيران الذي ينص على استئناف العلاقات الدبلوماسية بين البلدين وإعادة فتح سفارتيهما وتفعيل اتفاقية التعاون الأمني لعام 2001، واحترام سيادة كل منهما وعدم التدخل في شؤونه الداخلية، فضلاً عن إحياء اتفاقية أخرى جرى توقيعها في وقت سابق في مجال التجارة والاستثمار، فعلى رغم الترحيب الرسمي من إدارة الرئيس جو بايدن، وتأكيد كثيرين من المراقبين على الجوانب الأمنية الإيجابية المتضمنة في الاتفاق، فإن التجارب السابقة جعلت الخبراء والمحللين الأميركيين والمسؤولين السابقين حذرين حيال نوايا إيران، كما أنهم نظروا بمزيد من القلق تجاه الدور الصيني المتصاعد في المنطقة في مقابل تراجع النفوذ الأميركي الذي استمر لعقود طويلة.
مكاسب متعددة للسعودية
بصرف النظر عن حسابات المكسب والخسارة بالنسبة إلى الولايات المتحدة، فقد كان هناك تفهم في واشنطن للدوافع والأسباب التي جعلت السعودية تمضي قدماً في الاتفاق حتى النهاية، حيث يشير مدير مبادرة “سكوكروفت” الأمنية للشرق الأوسط والمسؤول السابق في مجلس الاستخبارات القومي الأميركي لشؤون الشرق الأدنى جوناثان بانيكوف، إلى أن قرار السعودية استئناف العلاقات الدبلوماسية وتبادل السفراء مع إيران، يعود إلى سياسة هادئة مستمرة منذ سنوات وإلى النمو الكبير في التجارة بين البلدين خلال عام 2022، لكنه يعكس أكثر رغبة السعودية في خفض درجة الحرارة مع إيران.
ويقول بانيكوف، على موقع المجلس الأطلسي، إن التركيز الاستراتيجي الأساسي للمملكة هو تنويع اقتصاد البلاد، ولتحقيق ذلك، ترى الرياض أن أمنها أمر بالغ الأهمية لضمان عدم تعطل عمليات التنقيب عن النفط والنقل والمبيعات، والأهم من ذلك أن ينظر إلى البلاد على أنها مكان آمن للاستثمار الأجنبي المباشر طويل الأجل، ومن هذا المنظور ستقلل الاتفاقية من احتمالات التصعيد والتوتر في المنطقة.
وفي حين تعتبر الخبيرة السياسية والاستراتيجية في المجلس الأطلسي كارميل أربيت أنه من السابق لأوانه الحكم على ما إذا كان التقارب بين السعودية وإيران سيتحول إلى علاقة أعمق في المستقبل، فإن الاتفاق كشف عن أن السعوديين يعرفون كيف يستخدمون ما بحوزتهم من أوراق ويقومون بسياسة تحوط مناسبة لهم، فالاتفاق مع إيران يساعدهم على التقرب أكثر من الصينيين، الذين تفاوضوا على الاتفاقية، ويمكن أن تعزز مكانتهم في العالم الإسلامي، كما أنها تدعم دور المملكة كقائدة في منطقة ديناميكية بشكل متزايد تبحث عن مزيد من الاستقلال عن الولايات المتحدة.
ويسلط هذا التطور الضوء على استراتيجية التنويع في السعودية التي تتخذ فيها الرياض مواقف قوية وجريئة تجاه الولايات المتحدة في شأن القضايا الحرجة، أخيراً، والانفتاح أكثر على روسيا والصين.
سبب الترحيب الأميركي
ويمكن لواشنطن أن ترى النصف الممتلئ من الكوب أو النصف الفارغ في الإعلان عن استئناف العلاقات الدبلوماسية الإيرانية- السعودية بوساطة الصين، وبحسب السفير السابق للولايات المتحدة في إسرائيل دانيال شابيرو، فإن النصف الممتلئ يتمثل في الحد من التوترات الإيرانية- السعودية، لأنه هدف أيدته الولايات المتحدة، بعد أن أعطت دعمها للجولات السابقة من هذه المحادثات في العراق وسلطنة عمان، وإذا تم تنفيذ الاتفاق، فقد يساعد في إنهاء الحرب في اليمن، كما سعت الولايات المتحدة، وتقليل التوترات في العراق التي أدت إلى استهداف القوات الأميركية.
ويتفق نائب مساعد وزير الدفاع الأميركي السابق وليام ويشسلر، في أن المصالح الأميركية في الخليج تصبح أكثر أماناً إذا كانت الدول المحيطة به تعمل بنشاط على تهدئة التوترات المتبادلة، فقد كانت هذه هي الحال عندما ساعدت الاتفاقية الأمنية لعام 2001 بين السعودية وإيران على منع نشوب صراع نشط لمدة 10 سنوات على رغم عدم الثقة المتبادل العميق، ولا يزال الأمر كذلك حتى اليوم، لذلك كان من المنطقي والطبيعي أن ترحب واشنطن بأخبار إعادة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.
عين حذرة
غير أن توماس واريك نائب مساعد وزير الأمن الداخلي والدبلوماسي الأميركي السابق، يرى أن واشنطن لا تحتاج إلى أن ترى الاتفاق على أنه نهاية حقبة أو بداية لعصر جديد، فعلى رغم أن أميركا ودول العالم يجب أن تشيد بانخفاض التوترات بين السعودية وإيران، التي أدت إلى استمرار العنف وعدم الاستقرار في المياه المحيطة بشبه الجزيرة العربية، فإنه لأسباب جيوسياسية أكثر من كونها دينية، ستنظر السعودية وإيران دائماً إلى بعضهما البعض بعين حذرة.
لكن شابيرو يرى أنه لا ينبغي للسعودية أن تغمض أعينها عن النيات الإيرانية، لأن طهران اختارت في أوقات مختلفة تصعيد التوترات مع جيرانها أو تهدئتها، من دون أن يظهر أي مؤشر إلى حدوث تغيير في الأهداف الاستراتيجية للنظام، التي تشمل الهيمنة الإقليمية التي يدعمها برنامجها النووي الذي يستمر في التوسع، فضلاً عن توسيع نطاق نفوذها من خلال وكلاء إرهابيين في لبنان والعراق واليمن، وهذا يطرح تساؤلات حول الأدوات التي يمكن أن تقدمها الصين إلى طاولة المفاوضات عندما تنتهك طهران شروط الاتفاق وروحه.
الصين لاعب سياسي
ومع ذلك، فإن الجزء الأكثر إثارة للاهتمام في هذا التطور بالنسبة إلى الأميركيين هو الدور الذي لعبته الصين للمساعدة في التوسط لإبرام الصفقة، فقد جمعت الجانبين معاً في توقيت يتزامن مع بدء ولاية الرئيس شي جينبينغ الثالثة، وبعد سنوات من تصريحات بكين بأنها أرادت فقط بناء علاقات اقتصادية في الشرق الأوسط ولم تسع إلى أي تأثير سياسي، لكن الصين عملت على زيادة نفوذها السياسي الإقليمي بشكل مطرد على مدى عقدين من الزمن، وكان أبرزها زيارة الرئيس الصيني إلى الرياض، في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، وزيارة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إلى بكين الشهر الماضي.
ويعتبر ويشسلر أن الصين التي وعدت بأن مصالحها في المنطقة اقتصادية فقط ولا تريد أن تكون لاعبة سياسية رئيسة، ستتعهد بأنها تريد النفوذ الدبلوماسي فقط، وليس الوجود العسكري الإقليمي، وهو ما يجب ألا تصدقه الولايات المتحدة.
كما يرى بانيكوف أن العلاقات الاقتصادية والتجارية غالباً ما تفسح المجال للمشاركة السياسية، التي يمكن أن تؤدي في النهاية إلى تعاون استخباراتي وأمني، وأن ظهور الدور السياسي للصين في المنطقة، ينبغي أن يدق ناقوس الخطر لصانعي السياسة الأميركيين الذين تركوا الشرق الأوسط وتخلوا عن العلاقات مع الحلفاء المحبطين، ما ترك فراغاً تملأه الصين، الأمر الذي يقوض الأمن التجاري والطاقة والأمن القومي للولايات المتحدة.
الغزوة الأولى
أما الخبير السياسي المتخصص في سياسة الصين تجاه دول الخليج جوناثان فولتون، فقد اعتبر أن الاتفاق يعد بمثابة أول غزوة رئيسة للصين في الدبلوماسية الإقليمية، وتشير بكين، منذ يناير (كانون الثاني) الماضي، إلى أنها مستعدة للترويج لرؤية شرق أوسط لا يتمركز حول الولايات المتحدة، وكانت هذه علامة على أشياء مقبلة.
ويعود خطأ الحسابات الأميركية إلى افتراض أن وجود الصين على جانبي الخليج لم يكن مقبولاً على المدى الطويل، وأنه في نهاية المطاف سيتعين على بكين أن تتصرف مثل البلدان الأخرى وتختار جانباً، وهذا يخطئ تقدير أسس دبلوماسية الشراكة الاستراتيجية للصين التي تقوم على المصالح وتركز على تطوير العلاقات الثنائية بدلاً من الموازنة مع طرف ثالث، بالتالي تمكنت بكين من تكثيف العلاقات على جانبي الخليج، وبناء رأس المال الدبلوماسي بطريقة لا تستطيع القوى الأخرى خارج المنطقة القيام بها.
أنف أميركا الدامي
لكن أحمد أبو دوح الباحث في مبادرة “سكوكروفت” للأمن رأى أن الطموحات الصينية للوساطة بين السعودية وإيران ليست جديدة، كونها تعتمد على رؤية صينية للأمن الإقليمي تكشف عن هدف بكين في أن تصبح لاعبة إقليمية، ويعزز الاتفاق الأخير شرعيتها كوسيطة دبلوماسية ثقيلة الوزن قادرة على حل المنافسة الجيوستراتيجية الأكثر تنافسية في المنطقة، ومن المرجح أنها ستقدم نفسها كصانعة سلام ذات صدقية على نطاق أوسع يشمل الصراعات في سوريا وليبيا واليمن بعد هذه الاتفاقية.
ويمثل هذا إشكالية لواشنطن لأن ترددها في إنفاق مزيد من رأس المال السياسي على التوسط في النزاعات، ينظر إليه في الشرق الأوسط على أنه دليل على تراجع قوة الولايات المتحدة التي تفضل التركيز على التنافس مع الصين في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
وعلى رغم استضافة العراق المحادثات الأولى، فإن رغبة الصين في تولي زمام المبادرة، منحت الرياض وطهران فوزاً دبلوماسياً، وهو مؤشر صارخ على نفوذ الصين وتقديرها المتزايد مع أكبر قوتين في الخليج، ولهذا فقد تركت الصين أنف الولايات المتحدة يدمي في الخليج.
دور واشنطن المقبل
لكن هذا بحسب الدبلوماسي الأميركي السابق توماس واريك، يجب أن يدفع كلاً من الكونغرس وإدارة بايدن إلى التحقق لمعرفة ما إذا كان نهج واشنطن تجاه الصورة الأمنية في الخليج يعمل من أجل المصالح الأمنية طويلة المدى للولايات المتحدة، فقد تغير الأمر عما كانت عليه قبل 40 أو حتى 20 عاماً، إذ تعد الصين عميلة رئيسة لنفط السعودية وإيران.
وعلى رغم أن الولايات المتحدة لا تحصل على نفط من إيران وتحصل على القليل من السعودية، فإن طبيعة أسواق النفط العالمية تعني أن الولايات المتحدة لا تزال لديها مصلحة اقتصادية وأمنية في ضمان التدفق الحر للنفط من الدول غير الخاضعة للعقوبات إلى الأسواق العالمية.
وبينما يمثل هذا الحدث، نجاحاً حقيقياً لمهارة دبلوماسية الصين باعتبارها وسيطة قوية في منطقة اعتادت أن تكون حكراً على الولايات المتحدة وحلفائها، وبما يتماشى مع “ورقة الموقف” الصينية لوقف الحرب الأوكرانية، تبدو السمة اللافتة للنظر في أن الصين وقوى الجنوب العالمي لم تعد بحاجة بعد الآن إلى الاعتماد على إجراءات واشنطن والغرب، وبهذا المعنى، تتبع الصين السيناريو الذي كانت روسيا نفسها أولى من كتبته من خلال تنظيم تعاون مع تركيا وإيران عبر عملية “أستانا” في إدارة الأزمة السورية، وفقاً لسفير فرنسا السابق في سوريا ميشيل دوكلوس، الأمر الذي يشكل تحدياً لدبلوماسية الولايات المتحدة ونفوذها العالمي.
قلق في إسرائيل
أما إسرائيل التي استقبلت أنباء التقارب بين السعودية وإيران بالدهشة والقلق والتأمل، بحسب تعبير صحيفة “نيويورك تايمز”، فقد قوض الإعلان عن الاتفاق آمال إسرائيل في تشكيل تحالف أمني إقليمي ضد إيران، ففي حين أن دولاً أخرى في الشرق الأوسط قد ترى إيران كتهديد، فإنها لا ترى مكاسب تذكر في عزل ومعارضة طهران إلى الحد الذي تفعله إسرائيل، التي تنظر إلى إيران وبرنامج أسلحتها النووية على أنهما خطر على بقاء إسرائيل ذاته، بينما ترى الدول العربية المجاورة لإيران أن طهران جار مزعج يمكن التعامل معه.
ويقول نائب مساعد وزير الدفاع الأميركي السابق وليام ويشسلر، إن إسرائيل تنظر إلى الاتفاق على أنه خطوة محسوبة لتقليل خطر العمل العسكري ضد إيران، وتأمل في ألا يكون الإعلان التالي هو استئناف المباحثات الأميركية- الإيرانية حول خطة العمل الشاملة المشتركة التي توسطت فيها الصين مرة أخرى، ما يضعف من الردع الأميركي- الإسرائيلي ضد إيران.
وبحسب المسؤول السابق في مجلس الاستخبارات القومي الأميركي لشؤون الشرق الأدنى جوناثان بانيكوف، فإن طهران التي خصبت جزيئات اليورانيوم إلى مستوى 83.7 في المئة، وتثير مخاوف واسعة النطاق بين صانعي السياسة الإسرائيليين والأميركيين، ربما تنظر إلى الاتفاق مع السعودية على أنه من المحتمل أن يجعل الرياض أقل ميلاً لتمكين إسرائيل أو الولايات المتحدة أو كلاهما من القيام بعمل عسكري ضد إيران.
خسارة روسيا
وبينما يقول أستاذ العلوم السياسية والحكم في جامعة “جورج ماسون” مارك كاتز، إن أحد التأثيرات المباشرة لدور الصين في تطبيع العلاقات السعودية- الإيرانية هو تعقيد آمال أميركا في مزيد من “اتفاقات إبراهام” التي كانت تأمل في إبرامها مستقبلاً، فإن الخاسر الأكبر في كل هذا هو روسيا التي كثيراً ما كانت تعلن عن نفسها كوسيطة بديلة لواشنطن في الشرق الأوسط، بخاصة أن موسكو تعمل بشكل فعال مع إيران في حين أن الولايات المتحدة لا تفعل ذلك، لكن من الواضح أن الصين تستطيع ذلك أيضاً بل وكسبت ثقة الجانبين.
وفي كل الأحوال، يتفق المراقبون في الولايات المتحدة على أنه لا ينبغي توقع انتهاء المشكلات المزمنة في العلاقات بين السعودية وإيران تماماً في أي وقت قريب، نظراً إلى لطبيعة المعقدة لهذه العلاقة، ومع ذلك من المرجح أن يكون هناك خفض أكثر وأوسع للتصعيد، وإن كانت النتيجة الإجمالية ستعتمد إلى حد كبير على الكيفية التي يرغب بها اللاعبان الأثقل وزناً في المنطقة في المضي قدماً من هذه النقطة، وما إذا كانا يرغبان في البناء على الاتفاق.
اندبندت عربي