لكنها مختلفة، هذه المرة، عن الزيارات السابقة، فقد استقبل هناك وفقاً لبروتوكول رسمي، ورافقه وفد وزاري كبير، واستقبله في المطار نائب وزير الخارجية الروسي الذي من المفترض أن يمثل روسيا في اجتماعات «الرباعية» المخصصة للدفع بالتطبيع قدماً بين النظام وأنقرة، ومن المفترض انعقادها في التوقيت نفسه، 15-16 آذار الجاري.
وأراد الكرملين أن يؤكد على الإطار المختلف لهذه الزيارة بالقول إن الهدف منها هو تعزيز التعاون بين البلدين في مختلف المجالات، وكأن الأمر يتعلق ببلد مستقر وفي ظروف طبيعية، وإن كان قد أضاف إلى موضوع المباحثات المزمعة بين بوتين والأسد «التباحث بشان حل سياسي شامل في سوريا وجوارها».
قد يمكن الافتراض أن المقصود بـ»جوارها» تركيا بالذات التي تبدو مستعجلة للتطبيع مع النظام، ويفترض أن يجتمع نواب وزراء خارجية الدول الأربع، روسيا وتركيا وإيران والنظام الأسدي، لتفعيل مسار هذا التطبيع. معلوم أن النظام أبدى تحفظه، في الأيام الماضية، على المشاركة في هذا الاجتماع، مشترطاً الحصول على ضمانات مسبقة بشأن انسحاب القوات التركية من الأراضي السورية للقبول بالمشاركة. فهل جاء استدعاء بشار إلى موسكو للضغط عليه كي يتخلى عن شرطه المسبق والمضي قدماً في التطبيع مع تركيا؟ أم أن فلاديمير بوتين يخبئ مفاجأة لهواة النوع كعقد لقاء بين بشار وأردوغان في موسكو على هامش اجتماعات «الرباعية» المشار إليها؟
فالرئيس الروسي الذي دخلت مغامرته الأوكرانية المكلفة عامها الثاني، قبل أسابيع قليلة، يحتاج إلى «شو» دبلوماسي مبهر، على غرار ما حققته الصين، الأسبوع الماضي، حين أبرمت اتفاقاً «تاريخياً» بين السعودية وإيران حول استعادة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، مع أهداف طموحة بشأن حل الخلافات بينهما بالحوار.
من جهة أخرى من المعروف أن بوتين يدعم الرئيس أردوغان في سباقه الانتخابي على منصب الرئاسة، ومن شأن عقد لقاء «مفاجئ» بينه وبين الأسد، أن يشكل هدية للرئيس التركي الباحث عن «إنجاز» من هذا النوع يستثمره في حملته الانتخابية. أما لماذا يعتبره إنجازاً فالأمر يتعلق بموضوعي إعادة اللاجئين السوريين إلى بلدهم، ومصير الإدارة الذاتية الكردية في شمال شرق سوريا.
التطبيع مع تركيا قد يبدو بالنسبة للنظام أقل كلفة من التطبيع مع السعودية المطروح في الأسابيع الماضية، فهذا الأخير يتطلب منه تقديم تنازلات في موضوع الحل السياسي لا يطيق مجرد طرحها
من شأن عقد الاجتماع بين الأسد واردوغان أن يعطي إشارات إيجابية بخصوص قرب حل مشكلة اللاجئين التي تهم الناخب التركي، وبما يعيد للرئيس التركي سمعته لدى جمهور مؤيديه القائلة: «إذا كان من أحد يستطيع حل هذه المشكلة فهو الرئيس نفسه». فهذا الجمهور الذي عبر بأشكال مختلفة عن نفاد صبره من استمرار وجود السوريين في تركيا بعد انقضاء 12 عاماً على وصول الموجات الأولى منهم، لا يثق بالأحزاب المعارضة التي تتوعد بإعادتهم إلى سوريا إذا فازت في الانتخابات المقبلة، بل بالرئيس الذي «جلبهم» ووحده القادر على إعادتهم.
أما موضوع الإدارة الذاتية الكردية في شمال شرق سوريا وقوات سوريا الديمقراطية التي تعتبرها أنقرة امتداداً إرهابياً لحزب العمال الكردستاني، فمن جهة أولى تتفق مصالح أنقرة مع مصالح نظام بشار بشأن وجوب التخلص منهما، ومن جهة ثانية يقف الأمريكيون عقبة في وجه هذا الهدف المشترك، بما يجعله لا يتجاوز كونه موضوعاً محتملاً لبيان مشترك يؤكد اتفاقهما على هذه النقطة، من غير أن ينتظر تحويله إلى عمل عسكري مشترك. ومن جهة أخرى يشكل بقاء القوات الأمريكية في مناطق الإدارة الذاتية مبرراً لتركيا لبقاء قواتها العسكرية في مناطق تواجدها، ومخرجاً لفظياً لنظام الأسد الذي يكرر في كل مناسبة مطالبته بـ»انسحاب جميع القوات الأجنبية» من الأراضي السورية، بحيث يتم ربط الوجود العسكري التركي مع نظيره الأمريكي، فيعد أردوغان بإخراج القوات التركية بالتزامن مع القوات الأمريكية. هذا حل لفظي مناسب للمايسترو الروسي ليخرج بـ»انتصار دبلوماسي» يضاف إلى إسقاطه للمسيّرة الأمريكية فوق البحر الأسود يوم أمس.
تبقى عقبة وحيدة أمام تحقيق هذا السيناريو المفترض، وهي إيران التي فرضت نفسها على مسار التطبيع التركي ـ السوري في آخر لحظة. ولا نعرف هل هي قادرة على منع بشار من لقاء محتمل مع أردوغان؟ بكلمات أخرى: هل بوسع طهران التغلب على الضغط الروسي على بشار لإرغامه على الاجتماع بأردوغان؟ أم أن لدى بوتين من الحوافز لإيران بما يغريها بقبول الأمر؟
بشار هو الطرف الأضعف الذي لا خيارات أمامه غير الانصياع لأحد أو كلا حليفيه، لكنه قد يأمل بتحويل هذا الاضطرار إلى فرصة فيتقدم بشروط تتعلق بمساعدته على تخفيف وطأة الأزمة الاقتصادية الاجتماعية التي تخنق مناطق سيطرته، مقابل تسويق التطبيع مع تركيا أمام جمهوره الموالي الذي ينظر إلى أردوغان بوصفه العدو الألد.
يبقى أن التطبيع مع تركيا قد يبدو بالنسبة للنظام أقل كلفة من التطبيع مع السعودية المطروح في الأسابيع الماضية، فهذا الأخير يتطلب منه تقديم تنازلات في موضوع الحل السياسي لا يطيق مجرد طرحها. هذا ما يشاع على الأقل بشأن المبادرة السعودية الجديدة التي ما زالت غامضة. فنظام الأسد يفضّل دائماً تقديم تنازلات لدول أخرى على تقديم أي شيء للشعب.
من نافل القول أن كل ما سبق يتعلق فقط بعرض إعلامي يأمل منه كل طرف أن يحقق مكاسب معينة، ولا يقدم حلولاً حقيقية للمشكلات المختلف عليها بين نظام الأسد وتركيا.
أما وجود وفد وزاري كبير برفقة بشار، فقد يكون مؤشراً لما هو أهم من وجهة النظر الروسية: ربط سوريا بمزيد من الاتفاقات التي من شأنها تكريس هيمنة روسية طويلة الأمد على مستعمرتها السورية.
القدس العربي