وجد مسؤولون ومراقبون للشأن السياسي العراقي، في التقارب الإيراني ـ السعودي الأخير، فرصة لتحقيق الاستقرار الأمني والسياسي في العراق، مستندين إلى ما تمتلكه الدولتان الجارتان من نفوذ واسع داخل البلاد التي لم تشهد استقراراً مُطلقاً منذ الغزو الأمريكي عام 2003.
وترعى كلٌ من الرياض وطهران أحزاب الإسلام السياسي الحاكمة في العراق، على اختلاف توجّهاتها، وغالباً ما تتلقى أوامر مباشرة من مسؤولي البلدين.
ويرى الخبير الأمني العراقي، صفاء الأعسم، إن الاتفاق الأخير بين السعودية وإيران «عامل استقرار» للعراق والمنطقة، مبيناً إنه «سيخدم المنطقة والعراق، لان البلدين الجارين لهما أذرع داخل العراق واتفاقهما سيكون عامل استقرار له».
وطبقاً لتصريح الأعسم لمواقع إخبارية محلّية، فإن «المشكلة في الاتفاق وجود قوى رافضة له. يحتاج الأمر إلى خطوات سياسية لمزيد من الاستقرار الذي الجميع بحاجة له ليس في العراق فقط».
ومثلما أغلب المسؤولين العراقيين، رحب زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني، مسعود بارزاني، بالاتفاق- الذي توسطت فيه الصين- بين إيران والسعودية، قائلاً في تصريح لموقع «المونيتور» الأمريكي، نهاية الأسبوع الماضي: «نود أن نرى نهاية للتوتر بين دول المنطقة. إيران والمملكة العربية السعودية دولتان مهمتان في المنطقة».
وأضاف: «ربما يكون من السابق لأوانه إصدار حكم، والتحدث كثيرًا عن ذلك، لكن على الأقل أي جهود لتخفيف التوتر هي موضع ترحيب» معبّراً عن أمله في أن «يكون الاتفاق بين إيران والسعودية علامة على أن إيران تبتعد عن لغة التخويف والتهديد، ونحو الحوار والدبلوماسية، لاستيعاب آراء الآخرين وتسوية القضايا عبر التفاهم المشترك».
وتمتلك إيران نفوذاً شبه مطلق على الأحزاب والشخصيات السياسية الشيعية في العراق، والتي اتفقت قبل نحو 4 أشهر على تشكيل الحكومة الحالية، ووصول محمد شياع السوداني إلى دفّة الحكم في البلاد.
ورغم الدور الصيني في إتمام الاتفاق، غير إن جذور بوادره جاءت بتدخلٍ عراقي، عندما طلب قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني السابق، قاسم سليماني- بغارة جوية أمريكية بمحيط مطار العاصمة بغداد مطلع كانون الثاني/يناير 2020- من رئيس الوزراء العراقي الأسبق، عادل عبد المهدي، طرح استعداد طهران التفاوض مع السعوديين.
ووفقاً لعبد المهدي الذي تحدّث في إيضاح مطوّل عن بنود الاتفاق، نشره الأسبوع الماضي، فإن «الخطوة الأخيرة في بكين وصدور بيان ثلاثي بين الصين والسعودية وإيران ذو دلالات تاريخية وكثيرون ساهموا بصناعة هذا الحدث الاستراتيجي الذي ان نجح، من شأنه ان يغير وجه المنطقة، بل العالم. فالمسألة ليست مجرد إعادة علاقات بين بلدين اختلفا، على أهمية ذلك. بل انها ستقود إلى تسوية كاملة لسلسلة ملفات حساسة وخطيرة».
«للتوثيق السريع» حسب قوله. يروي عبد المهدي أولى الخطوات التي مهّدت للاتفاق قائلاً: «كنت في زيارة رسمية للصين ايلول/سبتمبر2019. وقبل اللقاء بالرئيس تشي جي بينغ الأمين العام للحزب، ولي كه تشيانغ رئيس مجلس الدولة (معادل لرئيس الوزراء) في 23/9/2019 اتصل قاسم سليماني وقال هل تستطيع الذهاب إلى السعودية. سألته عن الغرض. قال للوساطة بيننا والمملكة. والأمر مستعجل. أجبته سأذهب حال عودتي إلى بغداد. أخبرت الجانب الصيني بطلب سليماني، واستبشروا خيراً بذلك. استفسرت منه عن ما يقترحونه».
رئيس الوزراء العراقي الأسبق- أُجبر على الاستقالة تحت ضغط احتجاجات أكتوبر 2019- تحدث عن تفاصيل النقاط السبّع التي طلب سليماني طرحها على المسؤولين في الرياض، والتي تضمّنت «نستطيع المساعدة في حل في اليمن عن طريق حكومة وحدة وطنية، وخلاف المشاع، ونرحب بتطور العلاقات السعودية/العراقية، والانفتاح على شعبه، والحوار والتنازل مع دول الجوار سهل، خلاف الخارج، والتعهد بتهدئة لعشر سنوات، والاحترام المتبادل ولا غالب ولا مغلوب، وضمان الملاحة في الخليج. حل مشترك في سوريا وليبيا، وبقية المنطقة، واجتماع وزراء الخارجية».
وأضاف: «اتصلنا بالأخوة السعوديين، الذين سألوا عن سبب الزيارة، فكنت قد زرت المملكة في نيسان (أبريل) 2019. ذكرنا الطلب الإيراني للوساطة. سألوا عن الطرف الإيراني. قلنا سليماني فرحبوا. عدنا صباح (25/9/2019). وغادرنا بغداد مساءً إلى السعودية يرافقني رئيس الوزراء السابق الكاظمي، (يومها مدير المخابرات) ووزير النفط ثامر الغضبان، ومحمد الهاشمي مدير المكتب. استقبلنا خادم الحرمين، ثم عقدنا جلسة متأخرة في الليل مع ولي العهد».
ويواصل عبد المهدي: «كانت منشآت أرامكو قد تلقت ضربة صاروخية، واتُهمت إيران بذلك، رغم نفيها المسؤولية. اتصل وزير الخارجية الأمريكي بومبيو يوم 5/9/2019 وقال ان الصواريخ انطلقت من شمال الخليج وليس من العراق كما أشيع وقتها. كان الجو في أعلى درجات التوتر. وكان ولي العهد يتكلم بتشدد. وعندما انتهى قلنا: سموكم هل تريدون الحرب مع إيران. قال كلا. قلنا إذا لم نذهب إلى الحرب فإما أن تبقى الأوضاع متوترة، وتهددنا بالانفجار، أو التفاوض. قال لقد جربنا هذا الأمر مرات، ولم ننجح».
وتابع: «ذكرت له (ولي العهد) كيف حُلت المشاكل بين الراحلين الشيخ الرفسنجاني والملك عبد الله. قال ماذا تقترحون. قلت لنفتح نافذة. اكتبوا رؤيتكم، وسننقلها للجانب الإيراني. ونحن واثقون ان هذا سيفتح باب الحوار. قال سأرسل لكم ورقة. وبالفعل وردت في (9/10/2019) بعنوان (ورقة لاستجلاء الموقف الإيراني). تتضمن 8 نقاط، طورت لاحقاً إلى 9. مع ديباجة، تقول في جزء منها: (في الوقت الذي تحرص فيه المملكة على احترام مبادئ القانون الدولي، والالتزام العميق بأعرافه ومبادئه ومن بينها مبدأ حسن الجوار، ومحاربة الارهاب ومكافحة التطرف، وتطوير علاقاتها مع دول العالم وبخاصة دول الجوار للإسهام في تمكينها من العيش في أمن واستقرار ورخاء… الخ)».
ووصف عبد المهدي الورقة السعودية بأنها «جافة» كاشفاً عن «طلب الجانب السعودي ان كانت لدينا مقترحات حولها. قلنا نعم. لم أغير شيئاً جوهرياً، لكنني قمت بتليينها ببعض التعابير لمعرفتي بان الجانب الإيراني (ناشف) أيضاً. وستكون هذه بداية سيئة. وبالفعل جاءت الورقة السعودية المعدلة، وفيها بعض الطراوة، دون الأخذ بكل مقترحاتنا. سلمتها إلى الشهيد (في إشارة إلى سليماني). وكان قد اطلع على الورقة الأولى. قال حسناً فعلتم، فالورقة الأولى كان سيصعب عرضها على القيادة الإيرانية. سألت سليماني قبل اغتياله بأسابيع عن الجواب الإيراني، فالجانب السعودي كان يطالب بذلك. قال إن القيادة الإيرانية ناقشت الموضوع وسأجلب الجواب عند عودتي إلى بغداد قريباً».
واسترسل قائلاً: «للأسف الشديد، قامت الإدارة الأمريكية السابقة بعمليتها الجبانة/الحمقاء. ولم يُعثر على حقيبته وفيها أوراقه، تركت المسؤولية في 7/5/2020 وتسلم الكاظمي المسؤولية. وفي زيارته الرسمية للمملكة، تقرر مواصلة المبادرة، وعُقدت الاجتماعات الأولى برئاسته في بغداد في نيسان/ابريل 2021 وكان محمد الهاشمي ينوب عنه عند تغيبه. ترأس الجانب السعودي الشيخ الفريق خالد الحميدان، والجانب الإيراني نائب أمين مجلس الامن السيد سعيد ايرواني. وتوالت الاجتماعات وحضرها آخرون، إلى أن توجت بالاتفاق الاستراتيجي في بكين».
وتأكيداً لـ«شهادة» عبد المهدي، اعتبر المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية، ناصر كنعاني، أن مبادرة الوساطة العراقية بين إيران والسعودية تعود إلى «الرؤية الإستراتيجية» لسليماني.
وأضاف كنعاني في «تغريدة» نشرها على منصّة «تويتر» أواخر الأسبوع الماضي، أن «سليماني، كان يعرف من هو العدو الرئيسي وكانت لديه آفاق بعيدة المدى» مؤكداً أن «مبادرة الوساطة العراقية بين إيران والسعودية، تنجم عن رؤية سليماني».
من زاوية أخرى، ينظر المحلل السياسي العراقي، محمد علي الحكيم، إلى أن الاتفاق السعودي ـ الإيراني، يصب في مصلحة المنطقة، كما يعزّز دور الصين فيها.
الحكيم يقول في تحليل أورده لـ«القدس العربي» إنه «بعد خمس جولات مكوكية في العراق وعمان لمباحثات بين طهران والرياض لرأب الصدع، يكتب التاريخ مرحلة فاصلة وهامة في تاريخ الشرق الأوسط، عنوانها انتهاء 7 سنوات من الجمود والتوتر بين العلاقات الإيرانية-السعودية».
وعدّ إنهاء الخلافات وعودة العلاقات بين الرياض وطهران بأنها «كانت متوقعة» في ظل التحديات التي تواجه العالم، وبالتحديد منطقة الشرق الأوسط، موضحاً أن «البلدين أدركا ان لغة المواجهة والتصعيد ليست في صالح المنطقة والعالم الإسلامي».
ورأى إن «عودة العلاقات بين طهران والرياض ستعزز الاقتصاد في الشرق الأوسط، وهناك استراتيجية بين البلدين لاحتواء وتصغير كل الخلافات بما يحفظ مصالحهما» مبيناً أن «هذا التطور في العلاقات بين القوتين الإقليميتين في المنطقة ينظر إليه على أنه سيفضي إلى تعزيز الاستقرار والأمن الإقليميين، وزيادة التعاون بين دول الخليج والعالم الإسلامي بالذات، لمواجهة التحديات القائمة، وبالتالي تعزيز السلام والاستقرار والتعاون الدولي لا يروق للكيان الإسرائيلي بالتحديد».
وأضاف: «مما لا شك فيه فإن الخاسر الأكبر من عودة العلاقات الدبلوماسية بين طهران والرياض هي إسرائيل التي كانت ترمي لحشد دول العالم- وبالتحديد دول المنطقة- نحو العداء مع إيران، حيث منيت مآربها وأهدافها بالفشل. الاتفاق بين السعودية وإيران هو فشل كامل وخطير للسياسة الخارجية لحكومة نتنياهو التي تعاني من مشاكل داخلية، ودائما ما تسعى لأحياء الخلافات بين الدول الإسلامية».
وطبقاً للحكيم فإن الاتفاق السعودي ـ الإيراني يعدّ «انهياراً لجدار الدفاع الإقليمي الذي بدأت إسرائيل ببنائه ضد إيران منذ سنوات» والأمر الثاني، هو «فتح الأبواب أمام نفوذ التنين الصيني على مصراعيه، لكي يجد له موضع قدم في منطقة الشرق الأوسط، بعد رأب الصدع بين البلدين، ما قد يزعج أمريكا التي رحبت ببيان على مضض».
القدس العربي