دشّن تراجع وانسحاب بريطانيا العظمى من منطقة «شرق السويس» بعد فشل العدوان الثلاثي على مصر بعد تأميم الرئيس جمال عبدالناصر قناة السويس عام 1956 بتدخل وضغط من إدارة الرئيس أيزنهاور ضد العدوان الثلاثي بقيادة بريطانيا وفرنسا وإسرائيل، لانسحاب بريطانيا من منطقة الخليج العربي والمنطقة كلياً عام 1971، ومعه نهاية قرنين من الإمبراطورية البريطانية التي لم تكن تغيب الشمس عنها، لتخلفها أمريكا!
وبرغم رفض دول الخليج العربية منح أمريكا قواعد عسكرية في الحرب الباردة متبعة الحياد الإيجابي بين القطبين الرئيسيين ـ الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي وحلفائهم، إلا أن الولايات المتحدة لا تزال اللاعب في أمن المنطقة.
شكل الغزو والاحتلال الروسي لأفغانستان تحدياً لهيمنة الولايات المتحدة الأمريكية على المنطقة، وخاصة بعدما أسقطت الثورة الإسلامية في إيران نظام الشاه عام 1979، وإعلان مبدأ الرئيس جيمي كارتر عام 1980 لحماية مصالح الولايات المتحدة الأمريكية في منطقة الخليج العربي والتحذير باستخدام القوة العسكرية لحماية المصالح الأمريكية وحلفائها في المنطقة.
بلغ الوجود العسكري الأمريكي أقصاه بقيادة أمريكا تحالف عاصفة الصحراء العسكري لـ33 دولة، وتحرير دولة الكويت عام 1991 بقواعد عسكرية دائمة، وتوقيع ترتيبات واتفاقيات أمنية وصفقات عسكرية تجاوزت مئات المليارات من الدولارات مع دول مجلس التعاون الخليجي الست.
سقوط نظام الشاه أنهى استراتيجية الرئيس نيكسون»العامودان التوأمان» السعودية وإيران ـ الذي كان غارقاً في حرب فيتنام، وتحوّل إيران للمعسكر المعادي لأمريكا «الشيطان الأكبر» وقطع العلاقات الدبلوماسية وفرض عقوبات.
واشتبكت الولايات المتحدة مع النظامين الإيراني والعراقي وحاصرتهما بالعقوبات. ردت إيران بدعم أذرعها في المنطقة لتعزز مكانتها ودورها كفاعل مؤثر في أزمات وملفات المنطقة. من أفغانستان والأمن الخليجي ومصادر الطاقة إلى اليمن والعراق وسوريا ولبنان والصراع العربي ـ الإسرائيلي والقضية الفلسطينية ومشروع إيران التوسعي بذراعها فيلق القدس، ودعم التنظيمات من غير الدول حزب الله والحوثيين والحشد الشعبي وحماس والجهاد الإسلامي، حيث صاروا دولا داخل دولهم، بل أقوى من الدول المركزية. ما أضعف وزاد من هشاشة تلك الدول وهدد الأمن!
نجحت أمريكا بفرض وتكريس نظام أحادي القطبية يقصي القوى العالمية عن منطقة الخليج العربي والشرق الأوسط، من المتوسط إلى غرب آسيا وصولاً إلى باكستان وأفغانستان
نجحت أمريكا بفرض وتكريس نظام أحادي القطبية يقصي القوى العالمية عن منطقة الخليج العربي والشرق الأوسط، من المتوسط إلى غرب آسيا وصولاً إلى باكستان وأفغانستان. واشتبكت في حروب استباقية بهندسة «المحافظين الجديد» في إدارة بوش الابن ـ بعد اعتداءات القاعدة في سبتمبر 2001 ـ ضمن الحرب العالمية على الإرهاب ـ والتي تفرغت لحروب أفغانستان والعراق وعلى طالبان والقاعدة ـ وخاصة فرع القاعدة في شبه الجزيرة العربية، ولاحقاً على داعش وحركة الشباب في الصومال وغيرها.
لكن بسبب انكفاء إدارة الرئيس باراك أوباما وسعيه لإنهاء الحروب الدائمة في الشرق الأوسط وانسحابه من العراق عام 2011 ـ واغتياله بن لادن والاستدارة شرقاً هرباً من مستنقع «الحروب الدائمة» ـ كما وصفها الرئيس دونالد ترامب لاحقاً، وجد بوتين منفذاً لعودة روسيا إلى الشرق الأوسط بالتدخل العسكري لدعم نظام الأسد في سوريا وحليفه الإيراني عام 2015، لمقارعة إدارة الرئيس أوباما المتراجعة، وإبقاء بشار الأسد ونظامه كموطئ قدم، بعد فشل إيران وحلفائها بتلك المهمة!
واليوم تدخل الصين إلى الشرق الأوسط بعد روسيا، بمبادرة وساطتها بين السعودية وإيران، ولا تلوم الولايات المتحدة إلا نفسها على اختراق الصين منطقة نفوذها في الخليج العربي، وذلك بسبب الانكفاء والتردد والانكفاء الأمريكي، الذي يفسر تراجعاً وانكفاءً خاصة بعد الانسحاب من أفغانستان.
كيف يمكن للصين التي بقيت لعقود على هامش الأحداث والأزمات والحروب الشرق أوسطية وأولت الاقتصاد والتجارة والطاقة أولوية، أن تحقق اختراقاً غير مسبوق وتتوسط بين الخصمين التاريخين بمشروعيهما المتضادين وتحالفها مع روسيا؟ وعلى حساب نفوذ وهيمنة أمريكا في منطقة الخليج العربي!
يُدخل التقارب الإيراني ـ السعودي بمبادرة ووساطة صينية عنصرا جديدا لمعادلة القوى الفاعلة في منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي ويعزز تحول المنطقة للتعددية القطبية ليس على المستوى الدولي فحسب، ولكن حتى على المستوى الإقليمي. ويأخذ في الحسبان دور الصين القوة الصاعدة والشريك التجاري الأول في إمدادات الطاقة للسعودية والصين-ولدول الخليج العربي مجتمعة. بعدما أصبحت الصين الدولة الأولى المستوردة للنفط والغاز.
ما قد يعزز النظرة إلى الصين كصانعة سلام ووسيط في أزمات المنطقة. وكما علق هنري كيسنجر مؤخراً-بات على خطط إسرائيل مراعاة مصالح وحضور الصين في الشأن والأمن الخليجي ومع إيران، إذا قررت القيام بعمل عسكري ضد منشآت إيران النووية، لمنعها من امتلاك القنبلة النووية!
كما أن تحالف الصين-وروسيا، وامتناعها عن التصويت لإدانة الحرب على أوكرانيا، خاصة في أعقاب انتخاب الرئيس الصيني تشي لفترة ثالثة في سابقة بتاريخ الصين بعد تعديل الدستور مؤخراً، يجعله رئيسا مدى الحياة، ويعزز دوره كأقوى زعيم للصين منذ ماو تسي تونغ، ويوثق التحالف الصيني-الروسي. سيتجلى ذلك بزيارة الرئيس الصيني تشي لموسكو هذا الأسبوع. ما يعمق التحالف الاستراتيجي بين خصمي الولايات المتحدة، ويسّرع بتحول النظام العالمي لنظام متعدد الأقطاب. وهو بدأ يتشكل منذ أكثر من عقد.
يصف الكاتب المخضرم ديفيد أغناطيوس في مقاله في صحيفة واشنطن بوست ـ «أن مواقف أمريكا وانكفاءها وتراجعها ساهم بتقدم الحضور الروسي والصيني-وأن الصين من استفادت من الانكفاء في المنطقة بحضورها ودورها في الوساطة بين السعودية وإيران».
ما تحقق بالاختراق الصيني في الخليج وما قد يتبعه بتجرؤ الصين على تكرار ذلك، يحوله لنهج مستقبلي. خاصة إذا نجحت وساطة الصين كضامن لبنود الاتفاق. وفي حال صح تقرير وول ستريت جورنال بتعهد إيران بعدم تزويد الحوثيين بالسلاح واحترام سيادة السعودية وعدم التدخل بشؤونها الداخلية وعدم شن اعتداءات، يساهم بالوصول لاتفاق وقف إطلاق نار دائم، وينهي الهدنة غير المعلنة منذ أكتوبر. ويؤمل أن يقود ذلك لإنهاء الصراع في اليمن ومناطق الصراع الأخرى، ويبني الثقة. سنرى!
القدس العربي