اعتاد عدد من السياسيين البريطانيين على القول: “نحن نقاتل هناك، لذا لا يتعين علينا القتال هنا”.
لقد كانت صياغة متقنة، وكان المقصود منها أنالمملكة المتحدة، أو الغرب بشكل عام، كان ينقل القتال إلى الساحات التي ينعدم فيها القانون – سواء في أفغانستان أو العراق – من أجل استباق فظاعة أخرى تشبه أحداث 11 سبتمبر (أيلول).
على رغم مرور عشرين عاماً على انضمام المملكة المتحدة إلى الولايات المتحدة الأميركية في عدوانها على العراق، وهو هجوم يجدر بنا التذكير بأنه لم يحصل على تفويض من الأمم المتحدة وعارضته عديد من دول الاتحاد الأوروبي بما فيها فرنسا، إلا أننا نجد اليوم المملكة المتحدة طرفاً متحمساً لحرب أخرى يتم شنها، إن لم يكن هنا بالضبط فعلى مقربة منا أكثر مما يمكن أن يتخيله أي شخص.
بالطبع هناك اختلافات كثيرة بين الحرب على العراق وحرب أوكرانيا، ليس أقلها التقدم التكنولوجي على مدى عقدين من الزمن وعالم الاتصالات الفورية الجديد. وثمة اختلافات حادة في نوع الحرب: يمكن النظر إلى الحرب على أوكرانيا على أنها حرب أوروبية قديمة تشن في البر من أجل الأمن وسلامة الأراضي، بينما تم خوض الحرب على العراق في البداية في الأقل وإلى حد كبير من الجو.
هناك أيضاً شعور بأن مفاهيم الخطأ والصواب تتبدل: الولايات المتحدة وأوروبا متحدتان في رؤية التزام أخلاقي بالمساعدة في الدفاع عن أوكرانيا من الغزو الأحادي وغير القانوني من قبل روسيا.
بينما وفي ما يتعلق بالعراق، لم يكن الغرب منقسماً فحسب، بل فشلت الولايات المتحدة الأميركية والمملكة المتحدة في الحصول على تفويض من الأمم المتحدة لتدخلهما، ثم اتضح أن العراق لم يعد لديه مخزون غير قانوني من الأسلحة الكيماوية التي كانت ذريعة للهجوم.
لقد أصبحت الحرب تمريناً على تغيير النظام بالقوة، تصحبه نتائج كارثية على المستفيدين المفترضين، وهم العراقيون. تكرر هذا الأمر في ليبيا، وكانت الفوضى أيضاً هي النتيجة، وكان على وشك أن يتكرر مرة أخرى في سوريا لو لم يصوت برلمان المملكة المتحدة بالرفض.
لكن هناك أيضاً أوجه تشابه، بعضها غير مريح، مما يشير إلى أنه لم نستخلص ما يكفي من العبر بقدر ما كان ممكناً وواجباً من الكارثة التي حلت بعد مغامرة العراق.
وهذا على رغم التحقيقات الطويلة والمكلفة، على غرار مراجعة باتلر وتحقيق لجنة تشيلكوت، حول أسباب نشوب حرب العراق وما الخطأ الذي حدث. فالخطأ الأول هو أنه، في كلتا الحالتين، ضاعت عديد من الفرص لتجنب اللجوء إلى السلاح، بالتالي، لجم الأعمال العدائية.
فقبل الهجوم على العراق كانت هناك مفاوضات. كانت هناك قرارات من الأمم المتحدة، وكانت هناك عمليات تفتيش تهدف إلى الكشف عن أسلحة الدمار الشامل المزعومة في العراق، لكن الحملات العسكرية لها منطقها الذي لا يرحم. بمجرد إعدادها، يصعب التراجع عنها.
وتبين أن الأمم المتحدة أداة غير كافية لمنع الحرب بمجرد أن يقرر طرف أو آخر أن استخدام القوة العسكرية هو خيار واقعي، أو الخيار الوحيد بالنسبة إليهم. يمكن قول الشيء نفسه عن روسيا قبل غزوها أوكرانيا، ولكن أيضاً فشل الغرب في رؤية أن رفض الدبلوماسية الروسية والمحاولات خلال نصف العام السابق للغزو كان يضيق بشكل مصيري خيارات روسيا.
أما الخطأ الثاني فكان تخفيض عدد الخبراء. في الأشهر التي سبقت حرب العراق، كانت هناك جهود مكثفة ولافتة لمعرفة أين وما إذا كان العراق يمتلك ما يسمى أسلحة الدمار الشامل. لم يتم العثور على أي منها فحسب، ولكن التقارير الموثوقة التي تفيد بأنه تم تدميرها لم يتم تصديقها.
لم يقتصر الأمر على استبعاد خبراء الأسلحة، ولكن الخبراء العراقيين – الذين تم تجاهل مخاوفهم في شأن تاريخ وثقافة العراق، إلى جانب تحذيراتهم من أنه من غير المرجح أن يرش العراقيون الزهور في طريق الولايات المتحدة الأميركية، أو أي مستعمر آخر.
يمكن إلقاء اللوم على كل من روسيا والدول الغربية على الدرجة نفسها – روسيا لعدم فهمها على ما يبدو التغييرات التي حدثت في أوكرانيا منذ الانهيار السوفياتي، وبالمثل أخطأت في تقدير الترحيب المحتمل.
لكن صانعي السياسة في الغرب فشلوا أيضاً – وما زالوا يفشلون – في تقدير الجذور التاريخية للصراع الذي يواجه حالياً حالة من الجمود في أوكرانيا، إضافة إلى عدم الالتفات إلى تحذيرات الخبراء في شأن عمق المخاوف في روسيا حيث زاد الناتو من وجوده في الأراضي التي تعتبرها روسيا حيوية لأمنها.
يتعلق الدرس الثالث بالتأثير غير المتكافئ الذي يمارسه المغتربون بصوتهم. يبدو أن نظرة الإدارة الأميركية للعراق قد تأثرت إلى حد كبير بدائرة من المهاجرين العراقيين حول أحمد الجلبي، الذي قدم نفسه على أنه الزعيم الطبيعي لبلاده ما بعد صدام، لكنه أثبت أنه منقطع الصلة وغير قادر على كسب الثقة من مواطنيه السابقين.
في الولايات المتحدة الأميركية والمملكة المتحدة، كان المهاجرون الأوكرانيون مخلصين بشكل كبير لبيترو بوروشينكو، الذي تم انتخابه بعد انتفاضة الميدان الأوروبي عام 2014 التي أطاحت فيكتور يانوكوفيتش، الذي يعتقد أنه يميل أكثر نحو روسيا
لسوء حظ أوكرانيا، بينما دعم المهاجرون في الغرب بغالبية ساحقة بوروشينكو في انتخابات 2019، فقد كانوا غير متناغمين مع مواطنيهم، الذين صوتوا بغالبية ساحقة لفولوديمير زيلينسكي، المحامي والممثل والمنتج السابق، الذي كان يترشح على أسس تشمل التفاوض على إنهاء الصراع المستمر منذ خمس سنوات في دونباس مع روسيا.
استغرق الأمر أكثر من عام بالنسبة إلى معظم القادة الغربيين (باستثناء المشرف الوحيد لفرنسا) لتحويل دعمهم إلى زيلينسكي، وفي ذلك الوقت كانت لحظة طرح السلام مع روسيا قد ولت إلى حد كبير.
أولئك الذين يثنون الآن ببذخ على قيادة الحرب بقيادة زيلينسكي يجب أن يدركوا أنهم لو كانوا متحمسين بالقدر نفسه بعد فوزه الهائل في انتخابات ديمقراطية، فلربما لم تكن هناك حرب.
قد يتعلق الدرس الرابع باستخدام الاستخبارات. الطريقة التي تم بها استخدام المعلومات الاستخباراتية – أو إساءة استخدامها – في الولايات المتحدة الأميركية والمملكة المتحدة لتبرير الحرب على العراق معروفة جيداً، على رغم أنه، للأسف، لم تتضرر مهنة أو سمعة أحد بشكل خطير نتيجة لذلك.
تم تقديم استخدام الدول نفسها المعلومات الاستخباراتية قبل الغزو الروسي لأوكرانيا، تقارير شبه يومية عن حشد مئات الآلاف من القوات الروسية الجاهزة للقتال، كإعادة تأهيل لأجهزة الاستخبارات. في النهاية، يمكنهم الادعاء بأنهم على حق.
لكن هل كان هذا هو الهدف من الإفصاح عن هذه المعلومات الاستخباراتية؟ هذه التقارير أحادية الجانب، التي أغفلت القول إن القوات الأوكرانية – كما تعتقد روسيا – كانت تحتشد على جانبها من الحدود بهدف محاولة استعادة الأراضي التي تسيطر عليها قوات المتمردين الموالية لروسيا، والتي يبدو أنها مصممة على ردع الغزو الروسي من خلال تحذير موسكو من أن نواياها معروفة، لكن المعرفة لم تردع. يمكن القول إنها أخافت روسيا ودفعتها إلى غزو أوكرانيا بينما لا يزال بإمكانها ذلك.
قد يكون الدرس الخامس حول مراعاة المصالح الحقيقية للأشخاص الذين تدعي أنك تمثل مصالحهم. من بين أهداف الولايات المتحدة الأميركية في العراق، التي تشاركها المملكة المتحدة إلى حد ما، تحرير العراقيين من الاستبداد وإحلال الديمقراطية، ما عاشه العراقيون كان الدمار والفوضى.
ربما كان أداء الأقلية الكردية في البلاد أفضل، لكنهم ما زالوا لا يتمتعون بالوطن المستقل الذي يتوقون إليه. حتى الآن، يصر الأوكرانيون على أنهم سيواصلون القتال. إن حربهم، في نهاية المطاف، هي حرب يتم خوضها من أجل بقاء الأمة، وهي رسالة من يؤيدهم من الغرب أيضاً.
ومع ذلك، تظهر بين الحين والآخر بوادر من أجندة أخرى من جانب البعض في الولايات المتحدة الأميركية والمملكة المتحدة، حيث يكون الهدف أقل منه حول إنقاذ أوكرانيا من تدمير روسيا كقوة عظمى إلى الأبد.
مع الاعتقاد بوجود هذه الأجندة، يبقى السؤال: هل يتم خوض هذه الحرب حقاً لصالح الأوكرانيين، أم يتم استخدامها لتحقيق أهداف أنانية للآخرين، وماذا يمكن أن تكون العواقب؟
وهكذا حول الدرس الأخير: ما أصبح يعرف بـ”اليوم التالي”. هذه هي النقطة التي سارت فيها الحرب في العراق بشكل خاطئ للغاية، حيث كانت القوة العسكرية غير كافية للوفاء بالتزامات قوة الاحتلال، تم حل الجيش العراقي، والسماح للمقاتلين المسلحين بممارسة حروبهم العشائرية، وسنوات من الفوضى التي غذت الجهاد في سوريا وأماكن أخرى.
“اليوم التالي” لم يأت بعد في أوكرانيا. ومع ذلك، فقد أظهرت حكومة زيلينسكي بعداً كبيراً في التحضير قدر الإمكان للخدمات اللوجستية وتمويل إعادة الإعمار، والتي ينمو حجمها يوماً بعد يوم، لكن هذا ليس سوى جزء مما ينتظرنا.
ما الأضرار، على سبيل المثال، من عدد قتلى الحرب والإصابات المعوقة والهجرة؟ هل سيكون السلام الأهلي ممكناً في بلد مليء بالأسلحة النارية، حيث كان الجيران في مناطق محتلة ذات مرة يتخذون جوانب مختلفة من الحرب؟
بعد عشرين عاماً، لا يزال العراق إثباتاً دامغاً على ما يمكن أن يحدث عندما يخطئ الغرباء، وإن كانوا من أصحاب النيات الحسنة، في تقدير المستقبل. ونبقى على أمل بأنه عندما سيحين الوقت، ستصبح الحرب على العراق أمثولة نتعلم منها.
اندبندت عربي