نشرت مجلة “فورين أفيرز” مقال رأي لكل من ماريا فانتابي، الزميلة المشاركة في معهد الدراسات الدولية بروما، وولي نصر، أستاذ الدراسات الدولية والشرق الأوسط بكلية الدراسات الدولية المتقدمة في جامعة جونز هوبكنز حول التحولات التي قد تحصل على منطقة الشرق الأوسط نتيجة للتقارب السعودي- الإيراني، وتساءلا إن كان الشرق الأوسط يشهد نظاما جديدا؟
وتحدثا عن اتفاقية 6 آذار/ مارس التي وقعها ممثلون عن السعودية وإيران في بيجين والقرار الذي تبع ذلك من تطبيع العلاقات بينهما. وأضافا أن الاتفاقية تحمل إمكانيات تحويل الشرق الأوسط عبر إعادة تشكيل قواه ورفض للانقسام السعودي- الإيراني الحالي واستبداله بشبكة معقدة من العلاقات ونسج المنطقة في الطموحات الصينية العالمية. وبالنسبة للصين فقد كان الإعلان عن الاتفاقية بمثابة قفزة للأمام في تنافسها مع واشنطن.
ولم تكن النتيجة هذه هي ما أرادته الولايات المتحدة، لأنها هي من شجع السعودية وإيران على التفاوض وتسوية الخلافات في 2021 ضمن جهودها لتخفيف التوترات بين المتنافسين في الخليج، ودعم مفاوضات الملف النووي ووقف الحرب في اليمن.
وعقدت طهران والرياض خمس جولات من المحادثات واستمرت الاتصالات بشكل غير رسمي. ثم طالب الرئيس الأمريكي جو بايدن في زيارته للسعودية بتموز/ يوليو 2022 واجتماعه مع قادة دول مجلس التعاون الخليجي بالتعاون مع إسرائيل لمواجهة التهديد الإيراني، ولكن حكومة السعودية اتجهت نحو الصين ونظرت إلى الرئيس شي جينبينغ بأنه الوسيط الأفضل مع طهران.
ورأى السعوديون أن دخول الصين على خط المفاوضات هو الطريق الأكثر ضمانا لعدم خرق إيران أي اتفاقية في المستقبل، لأنها، أي طهران لن تخاطر بعلاقاتها القوية مع الصين وتخرق ما اتفق عليه.
وناقش شي الموضوع مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان أثناء زيارته للرياض في كانون الأول/ ديسمبر 2022 ومرة أخرى في شباط/ فبراير 2023 عندما استضاف الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي في بيجين، وتبع ذلك مفاوضات مكثفة بين إيران والسعودية، حيث اتفق الطرفان على دفن الخلافات القديمة وتطبيع العلاقات.
وكان تدخل شي بالنسبة للبلدين محوريا، فكلاهما لديه علاقات تجارية وسياسية مع بيجين، ولهذا نال شي الثقة منهما. ولو تم تنفيذ الاتفاق بشكل كامل، فستكون إيران والسعودية على نفس الصف، فقد اتفقا على إعادة فتح البعثات الدبلوماسية التي أغلقت بعد هجوم الغوغاء في طهران على سفارة السعودية هناك عام 2016. ووافقت السعودية على التوقف عن دعم “إيران انترناشونال” القناة المعارضة التي حرضت على التظاهرات ضد النظام. وعبرا عن التزام باتفاق وقف إطلاق النار في نيسان/ إبريل 2022 بين الأطراف المتحاربة في اليمن وعبرا عن التزام بالعمل على تسوية تنهي الحرب في البلاد. وستتوقف إيران عن تزويد الحوثيين بالصواريخ والمسيرات التي استخدموها لضرب المنشآت النفطية والمدن الكبرى في السعودية. ويدعو الاتفاق لعلاقات اقتصادية ودبلوماسية بين دول مجلس التعاون الخليجي وإيران وقيام الأخيرة مع شركائها العرب بالعمل على إطار أمني، وأكثر من هذا فستواصل الصين مراقبة خطوات تطبيق الاتفاقية.
ويعتقد الباحثان أن الاتفاقية الإيرانية- السعودية ستنهي وبشكل محتمل التنافسات وتوسع العلاقات التجارية في منطقة الخليج، ولن تجد إيران نفسها في مواجهة تحالف بين العرب والإسرائيليين ضدها، والذي عولت عليه الولايات المتحدة لتحقيق الهدف الصعب وهو احتواء طهران.
وبدلا من ذلك ستعزز الاتفاقية العلاقات بين إيران وجوارها العربي وتضفي وبشكل تدريجي استقرارا على العلاقات في المنطقة. وسيكون أثر التغيرات المتسارعة في العلاقات عميقا عن المنطقة. فقد تعهد وزير المالية السعودي محمد الجدعان باستثمارات في إيران لو مضت الأمور بالطريق المرسوم، كما وقبل رئيسي دعوة من الملك سلمان لزيارة المملكة في موعد لم يحدد بعد.
ويعتقد الكاتبان أن التعاون مع الصين هو تطور جديد بالنسبة للسعودية وإيران، ففي عام 2015 كان تركيز طهران على تقوية علاقاتها مع الدول الأوروبية والولايات المتحدة، ونظرت للتفاوض مع جيرانها كأمر ثانوي، وكانت النتيجة هي خطة العمل المشتركة الشاملة في 2015 والتي حدث من النشاطات النووية الإيرانية مقابل تخفيف العقوبات، وبعد خروج الرئيس دونالد ترامب منها عام 2018 تقاربت السعودية ودول الخليج أكثر مع إسرائيل، وهو تحرك ساهمت هجمات إيران على المنشآت النفطية السعودية في 2019 به. ومن جانبها غيرت طهران من تركيزها وبدأت بالعمل على تحسين علاقاتها مع جيرانها، وأعادت العلاقات الدبلوماسية مع الكويت والإمارات في 2022، ولكن اتفاقية بيجين تفتح إمكانيات تحسين علاقات إيران مع البحرين ومصر.
ورحبت طهران بالدور الصيني في الشرق الأوسط لأنه يضعف الموقف الأمريكي ويقوض نظام العقوبات الذي فرضته أمريكا عليها وشل الاقتصاد الإيراني. فعلاقات جيدة مع دول مجلس التعاون الخليجي سيخفف من التهديد الذي تشكله اتفاقيات التطبيع والتي أدت لعلاقات استخباراتية وعسكرية بين إسرائيل من جهة والسعودية والإمارات من جهة أخرى، ثم توسعت لاحقا إلى المغرب والسودان. وهو ما وسع حرب الظل الإسرائيلية- الإيرانية لمنطقة الخليج.
وفي الوقت الذي قد تتسامح فيه طهران مع علاقات ثنائية بين دول الخليج وإسرائيل، إلا أنها لن تقبل بتحالف عسكري عربي- إسرائيلي موجه ضدها. لأنه سيكون خطيرا على إيران في ظل فشل المفاوضات النووية مع إدارة بايدن والاحتجاجات المحلية والحضور المتزايد لإسرائيل في أذربيجان والعراق وتفكير الحكومة المتطرفة في إسرائيل بضرب المنشآت النووية لمنع إيران من الحصول على السلاح النووي.
وبالنسبة للسعودية، فقبول اتفاق بقيادة بيجين يمثل تحولا استراتيجيا جريئا، والعلاقات السعودية مع أمريكا في أدنى مستوياتها، فالرياض ليست راضية عن سياسات أمريكا منذ غزو العراق في 2003 وتفكيك الدولة العراقية ولم ترض عن الاتفاقية النووية وغاضبة من تردد واشنطن بدعم مصالحها ضد إيران في كل من سوريا واليمن، وشعرت بالقلق لعدم مسارعة أمريكا للدفاع عنها بعد هجمات 2019 على منشآتها النفطية.
وتعتقد السعودية أن أمريكا التي كانت الحليف الأقوىلم تعد مهتمة بالمنطقة وتركز على أولويات أخرى ولا تعتقد أن واشنطن لديها خطة واضحة للشرق الأوسط بعد فشل المحادثات النووية. كما أن القيادة السعودية ليست راضية عن العلاقات الحالية مع إدارة بايدن التي كانت بطيئة في إصلاح العلاقات والتهديد لتحويلها المملكة لمنبوذة ردا على مقتل الصحافي جمال خاشقجي. وظلت المملكة التي تفتقد للقدرات العسكرية التي تملكها دول في المنطقة. ولن يؤدي تخفيف التوتر مع الجارة الإيرانية لتلاشي هذا القلق، لكن الصفقة الجديدة ستعطي الرياض فرصة لشراء الوقت لتقوية أمنها وتنويع خياراتها الاستراتيجية. وقادت هذه الرغبة الرياض لتقوية علاقاتها الأمنية مع إسرائيل في العقد الماضي وكذا التوجه نحو الصين. ومن خلال تجميع الشركاء مثل الصين وإسرائيل والولايات المتحدة إلى جانب تحسين علاقاتها مع أعدائها مثل إيران وتركيا وسوريا فإنها ستكون قادرة على دعم استقرارها طويل الأمد.
ولدى السعودية طموح للتحول إلى قوة صناعية وتكنولوجية بحلول 2030 ومركز للسياحة والثقافة، ولن يتحقق هذا إلا بدعم عسكري أمريكي وأمني وتكنولوجي إسرائيلي وتجاري من أوروبا والصين واستقرار محلي. وتتناقض استراتيجية الرياض مع مفهوم واشنطن للأمن الإقليمي والتي تفضل عزل إيران ولا تستبعد الحرب، مع أنه لا توجد لديها خطة لإدارة الخطة. وكافحت لكي توفق بين رغبتها بالتعهد لشركائها في الشرق الأوسط ونزعتها للتحول نحو الشرق ومواجهة الصين.
وبالمحصلة فالرياض تريد أن تظهر أنها في حل من التحالف مع أمريكا حالة لم تلتزم هذه بتعهداتها. ولم تفهم الولايات المتحدة أن السعودية لا ترى في نفسها دولة تابعة بل قوة تستطيع لعب دور على المسرح العالمي، ولهذا فالمعيار السابق الذي قامت عليه العلاقة بين البلدين “الأمن مقابل النفط الرخيص” بات في حكم الميت. كما أن طموح الرياض الاقتصادي واستقلاليتها ليسا انعكاسا لتراجع الدور الأمريكي بالمنطقة بل ورغبة سعودية بإقامة علاقات مستقلة مع الولايات المتحدة والصين وروسيا في نفس الوقت. وتنظر لنفسها كقوة لها دور في المنطقة توازن قوة إيران وإسرائيل وتركيا. ولكي تحافظ الرياض على موقفها هذا فعليها إقامة علاقات مع جيرانها. وفي 2022 أعادت الرياض العلاقات مع تركيا والآن مع إيران والمرحلة المقبلة مع إسرائيل، حيث سيتم تقديم الاتفاق بأنه علاقات ثنائية وليس محورا عسكريا ضد طهران. ويؤكد اتفاق بيجين على استقلالية الرياض ودورها في المنطقة.
ويظل الدور الصيني هو الأكثر إشكالية في الصفقة الأخيرة، فلطالما تجنبت بيجين التورط في سياسات المنطقة، إلا أن توسع علاقاتها التجارية مع دولها زاد من أهمية مشاركتها الدبلوماسية. وتعتبر المنطقة مهمة لمبادرة الحزام والطريق، وتريد الصين ألا تتأثر استثماراتها في السعودية بالحرب مع الحوثيين. كما وتوسع بيجين استثماراتها في إيران، وهي مهتمة بتطوير خطة طريق ترانزيت يسمح للتجارة الروسية الوصول إلى الأسواق العالمية بدون المرور بقناة السويس، ويسمح هذا الطريق للصين بالتحايل على مضيق ملقة الذي تبني فيه الولايات المتحدة وحلفائها أرمادا بحرية.
ولكي تحقق أولوياتها فإن الصين باتت مستعدة لتحدي أمريكا في الشرق الأوسط. ومن هنا فتلاقي المصالح السعودية والإيرانية وأن الصفقة الأخيرة في بيجين ستكون أساسا لواقع جديد في الشرق الأوسط. وهو ما يمثل تحديا لواشنطن التي لم تعد قادرة على الطلب من حلفائها العرب الابتعاد عن الصين والاصطفاف معها ضد إيران. فهذا نهج قديم لم يعد متوائما مع الواقع، ولا يأخذ بعين الاعتبار مصالح دول المنطقة التي قد لا تتلاقى مع مصالح أمريكا، فمصالح السعودية لا تخدمها مثلا حرب مع إيران أو مواجهة مع الصين.
وستخفف الصفقة من التوترات بالمنطقة وتقلل التهديدات الإيرانية النووية، وهو ما يجب على واشنطن الترحيب به، لأنه سيسمح لها بالتركيز على أولوياتها الأخرى بدون التظاهر بأنها ملتزمة بأمن المنطقة. ويجب على الولايات المتحدة تشجيع السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي على بناء معمار أمني إقليمي وتوفر الأمن البحري وتتعاون على حل النزاعات في الشرق الأوسط. ويجب على الولايات المتحدة تشكيل سياسات متناسبة مع مصالح دول المنطقة وإلا خسرت التأثير لصالح الصين وروسيا وستتحرك المنطقة أكثر باتجاه كتلة عدم الانحياز. ويجب أن يبدأ أي تقييم أمريكي لاستراتيجية المنطقة بالضغوط والفرص التي جلبت السعودية إلى أعتاب بيجين.
القدس العربي