لطالما رحّبت دول الشرق الأوسط بانخراط الصين في المجالات الاقتصادية. فقد ازداد إجمالي تجارة الصين مع المنطقة بشكل هائل منذ مطلع القرن الحادي والعشرين، وهو يتنامى باطّراد، إذ ارتفع من 180 مليار دولار في العام 2019 إلى 259 مليار دولار في العام 2021. في المقابل، تراجع إجمالي تجارة الشرق الأوسط مع الولايات المتحدة من 120 مليار دولار في العام 2019 إلى 82 مليار دولار في العام 2021. وما زالت الصين تعمل على توطيد روابطها الاقتصادية متجاوزةً الانقسامات الإقليمية، ما يسهم في تعزيز مكانتها بصفتها أكبر شريك تجاري لقوى إقليمية مثل مصر وإيران والأردن والكويت والسعودية والإمارات.
تفادت الصين تاريخيًا التورّط في صراعات المنطقة أو اتّخاذ مواقف مباشرة بشأن الخلافات الشائكة. وبدلامن تحدّي هيمنة الولايات المتحدة وتفوّقها العسكري في الشرق الأوسط في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، استفادت الصين، كقوة عظمى ثانوية، من الغطاء الأمني الأمريكي من دون أن تسهم فيه، ومن دون أن تتكبّد الكلفة الأمنية نفسها التي تكبّدتها الولايات المتحدة، ومن دون أن تواجه المعضلات الاستراتيجية ذاتها. لكن هذا الواقع يتبدّل اليوم على ما يبدو. فمن خلال التوسط في اتفاق استئناف العلاقات بين الرياض وطهران، تخوض بكين غمار منعطف جديد يرتكز على توسيع انخراطها في المنطقة عبر الانتقال من التبادل الاقتصادي إلى حل النزاعات بشكل تفاوضي.
تشكّل طريقة العمل التي تتّبعها الصين من أجل بلوغ حلول تفاوضية للنزاعات عامل جذبٍ لدول المنطقة التي وجّهت في مناسبات عدة منذ العام 2011 انتقادات للإدارات الأمريكية المتعاقبة بسبب انسحابها الاستراتيجي من الشرق الأوسط، وامتعضت من فشل التدخل الأمريكي في العراق وليبيا وسوريا ودول أخرى. قد تشيد الصين بوساطتها في الاتفاق السعودي الإيراني باعتبارها نجاحًا دبلوماسيًا لم تُحرزه الولايات المتحدة خلال فترة طويلة، لكن على طهران والرياض أولاالإيفاء بالتزاماتهما فيه.
وفيما تغوص الصين في أتون السياسات الشرق أوسطية وتعقيداتها، ستواجه تحديات استراتيجية من شأنها تقويض صورتها كطرف حيادي، وسيكون نجاح استراتيجيتها الجديدة في المنطقة رهنًا بالوقائع المحلية على الأرض. فالصين، باعتبارها كانت وما زالت الشريك التجاري الأكبر لإيران منذ عشر سنوات، تشغل موقعًا فريدًا يخوّلها حمل إيران على الوفاء بتعهّداتها، على الرغم من أن استعداد الصين للقيام بذلك لا يزال غير مؤكّد. ولكن من الواضح أنها خاضت رهانًا طموحًا في دور الوساطة الذي أدّته بين البلدَين، ويتوقّف المسار الذي ستسلكه الأمور مستقبلاعلى حجم الضغوط التي تعتزم الصين ممارستها، وبدرجة أكبر بكثير، على السلوك الذي تختار كلٌّ من إيران والسعودية اتّباعه.
ربما تتهيّأ منطقة الشرق الأوسط لتصبح حلبةً للتنافس المتعدّد الأقطاب، ولكن هذا التنافس قد لا يكون عموديًا وقد لا يحدث بين ليلة وضحاها. لذا، علـى القوى العظمى أن تستجيب للوقائع على الأرض من خلال الإصغاء إلى القوى المحلية والتكيّف مع الهواجس الإقليمية المتبدّلة
في المرحلة المقبلة، وفيما وراء الوساطة، سيكون على الصين أن تقرّر ما الدور الذي ترغب في أدائه في المنطقة: دور وسيط دبلوماسي، أم جهة راعية عسكرية، أم عملاق اقتصادي مُنصرِف عن الشؤون الأخرى. لا يزال من السابق لأوانه استباق التحوّلات التي قد تخوضها المكانة الإقليمية للصين، إلا أن مساعيها الأخيرة في دبلوماسية الشرق الأوسط تُنبئ بمصالح جيوسياسية أوسع. وخير مثال على ذلك القمة الصينية العربية التي أُقيمت دورتها الأولى في الرياض في كانون الأول/ديسمبر الفائت واتفاقات الشراكة الاستراتيجية التي وقعتها الصين مع إيران من جهة وبعض الدول العربية من جهة أخرى.
ليس واضحًا ما إذا كانت سياسة «صفر نزاعات» التي تنتهجها بكين قادرة على النأي بها عن الضغوط الدبلوماسية لتحديد اصطفافات جيوسياسية نهائية. ولكن سيتعيّن عليها خوض هذه الأجواء الجيوسياسية الجديدة بطرق مدروسة. فقد تتسبّب الصين، من خلال عملها على تعزيز التقارب السعودي الإيراني، بإثارة حفيظة إسرائيل غير المتحمّسة لهذا التقارب. وينبغي على بكين أيضًا، وهي ماضيةٌ في تطبيق مقاربة «صفر نزاعات» ألّا تغضّ الطرْف عن القضية الدائمة في الشرق الأوسط، أي القضية الفلسطينية، إذا أرادت الحفاظ على مصداقيتها في أوساط الجماهير العربية. وفي مواجهة هذه المصالح المتضاربة، قد تتطوّر السياسة الإقليمية الصينية القائمة على التحوّط الاستراتيجي، عن غير قصد، إلى سياسة شاملة لتحقيق توازن في القوى وضمان الأمن في الشرق الأوسط. قد تحمل الصين الصاعدة آفاقًا بإرساء تعدّدية الأقطاب العالمية في الشرق الأوسط، ولكن سيتعيّن عليها مواجهة العثرات نفسها التي اصطدمت بها الولايات المتحدة، والتغلّب عليها، إذا أرادت إحداث تغيير ملموس في الوضع الإقليمي القائم.
أما في ما يتعلق بالولايات المتحدة، فيجب ألّا تنظر إلى توسّع الانخراط الصيني بأنه تهديد لها وحسب. فبكين لا تستطيع، ولا ترغب، في الاستيلاء على دور واشنطن باعتبارها القوّة العسكرية المهيمنة في المنطقة. بل واقع الحال هو أن انخراط الصين الجيوسياسي الموسَّع قد يفتح مجالات أمام زيادة تعاونها مع الولايات المتحدة، من خلال الاستثمار في علاقات إقليمية محدّدة تفتقر إليها واشنطن، وخير مثالٍ على ذلك الروابط التجارية القوية بين الصين وإيران. وبما أن هاتَين القوتَين العظيمتَين متفقتان بشأن بعض مصالحهما الأساسية في المنطقة، بما في ذلك ضمان تدفّق موارد الطاقة العالمية وحرّية الملاحة، يجب على الولايات المتحدة أن تتصرّف بحكمة فتمتنع عن ممارسة ضغوط على حلفائها العرب للدخول في شراكات حصرية معها. وبدلا من أن تتخوّف واشنطن من اندلاع حرب باردة في الشرق الأوسط وتسهم في تأجيجها، ينبغي عليها أن تُعيد تقييم أولوياتها في المنطقة وتبحث عن سبلٍ لتحقيق نتائج إيجابية ومحفزة للاستقرار من الانخراط مع بكين.
ربما تتهيّأ منطقة الشرق الأوسط لتصبح حلبةً للتنافس المتعدّد الأقطاب، ولكن هذا التنافس قد لا يكون عموديًا وقد لا يحدث بين ليلة وضحاها. لذا، علـى القوى العظمى أن تستجيب للوقائع على الأرض من خلال الإصغاء إلى القوى المحلية والتكيّف مع الهواجس الإقليمية المتبدّلة. وطالما لم يعد بالإمكان الحفاظ على الأحادية القطبية الأمريكية، ربما من الأجدر بالولايات المتحدة أن تواكب التغييرات الراهنة لتحقيق مصالحها على أفضل وجه.
القدس العربي