قد يعتقد المرء أن ذلك الهجوم المميت المبيت والمخطط له بعناية على السكان المدنيين العراقيين (بعد عملية “عاصفة الصحراء”، تحرير الكويت 1990-1991)، والذي استمر عامًا بعد آخر، كان بالتأكيد انتقامًا كافيًا لغزو صدام حسين للكويت.
لكن ما سمح للصقور المتطرفين في واشنطن بالضغط من أجل شن حرب ساخنة أخرى على العراق كان بقاء صدام الشخصي كديكتاتور في العراق. وعلى الرغم من أن أهداف حزب الحرب كانت أوسع بكثير، إلا أن بقاء صدام المتحدِّي في الحكم كان دائمًا هو الذريعة.
في 8 تموز (يوليو) 1996 أرسل “معهد الدراسات الاستراتيجية والسياسية المتقدمة” مذكرة استراتيجية إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي الجديد في ذلك الحين، بنيامين نتنياهو. تحت العنوان المتفاخر المغري “استراحة نظيفة: استراتيجية جديدة لتأمين المملكة”، (المملكة في هذه الحالة هي إسرائيل)، كان من بين رعاة المذكرة العديد من الشخصيات سيئة السمعة في واشنطن، بعضهم اتهم أكثر من مرة على مر السنين بأنهم عملاء لتأمين النفوذ لإسرائيل، بمن في ذلك ريتشارد بيرل Richard Perle (1) ودوغلاس فيث (2) Douglas Feith.
ومن بين التوصيات التي قدمها معدو المذكرة إلى نتنياهو كان ما يلي:
– دحر بعض من أخطر التهديدات (التي تتهدد إسرائيل). وهذا يعني انفصالاً تامًا عن شعار “السلام الشامل” والتحول إلى مفهوم تقليدي للاستراتيجية القائمة على توازن القوى.
- تغيير طبيعة علاقات (إسرائيل) مع الفلسطينيين، بما في ذلك التمسك بحق السعي الساخن إلى الدفاع عن النفس بالدخول إلى جميع المناطق الفلسطينية…
يمكن لإسرائيل أن تقوم بتشكيل بيئتها الاستراتيجية، بالتعاون مع (شركاء إقليميين)، من خلال إضعاف سورية واحتوائها -وحتى دحرها.
ويمكن أن يركز هذا الجهد على الإطاحة بصدام حسين من سدة السلطة في العراق -وهو هدف استراتيجي إسرائيلي مهم في حد ذاته- كوسيلة لإحباط طموحات سورية الإقليمية.
وفي غضون بضعة أشهر قصيرة، تمت إعادة تدوير هذه الورقة الاستراتيجية المقدمة لنتنياهو من خلال وكالة لبيع البضائع الرخيصة في واشنطن تسمى “مشروع القرن الأميركي الجديد”، الذي طوره ويليام كريستول بضخ الأموال من “مؤسسة برادلي” اليمينية.(3)
أصبح “مشروع القرن الأميركي الجديدة” مكانًا لجثوم حاشية من المحافظين الجدد في العاصمة، بقيادة دونالد رامسفيلد وديك تشيني وبول وولفويتز. وعشية خطاب حالة الاتحاد الذي ألقاه كلينتون في العام 1998، أرسل رامسفيلد وولفويتز رسالة إليه على منصة “مشروع القرن الأميركي الجديد” يحثان فيها الرئيس على إجراء إصلاح جذري لسياسة الولايات المتحدة تجاه العراق.
بدلاً من الضغط البطيء عن طريق العقوبات، أعلن رامسفيلد وولفويتز أن الوقت قد حان لطرد صدام قسرًا من السلطة، وإعادة بناء العراق وفقًا لخطوط مواتية للمصالح الأميركية والإسرائيلية. ولتذهب الأمم المتحدة إلى الجحيم.
وجاء في الرسالة: “إننا نكتب إليكم لأننا مقتنعون بأن السياسة الأميركية الحالية تجاه العراق لا تنجح، وأننا قد نواجه قريبًا تهديدًا في الشرق الأوسط أكثر خطورة من أي تهديد عرفناه منذ نهاية الحرب الباردة.
في خطابك المقبل عن حالة الاتحاد، لديك فرصة لرسم مسار واضح وحازم لمواجهة هذا التهديد. ونحن نحثك على اغتنام هذه الفرصة، والإعلان عن استراتيجية جديدة يكون من شأنها تأمين مصالح الولايات المتحدة وأصدقائنا وحلفائنا في جميع أنحاء العالم.
يجب أن تهدف هذه الاستراتيجية، قبل كل شيء، إلى إزالة نظام صدام حسين من السلطة… لا يمكن أن تستمر السياسة الأميركية في أن تظل مشلولة بسبب الإصرار المضلل على الإجماع في مجلس الأمن الدولي”.
وفق جميع الاحتمالات، لم تكن الاستراتيجية التي رُسمت خطوطها العريضة في الرسالة موجهة إلى كلينتون، “البطة العرجاء” في ذلك الحين، وإنما إلى آل غور، الذي اعتقد وولفويتز ورامسفيلد وآخرون أنه قد يكون أكثر تقبلاً لهذا الخطاب.
وكان لديهم سبب للأمل. كان أحد أعضاء “المشروع من أجل قرن أميركي جديد” هو جيمس وولسي James Woolsey، رئيس وكالة المخابرات المركزية السابق ومستشار آل غور منذ فترة طويلة للشؤون الاستخباراتية والعسكرية.
وقد نجح الأمر. مع بدء موسم الحملات الانتخابية، بدأ آل غور ينأى بنفسه عن كلينتون بشأن سياسة العراق. وعمد إلى احتضان السياسي العراقي الفاسد، أحمد الجلبي، وحزبه “المؤتمر الوطني العراقي”، واتهم عائلة بوش بالتساهل مع صدام ودعا إلى إسقاط النظام في العراق.
ولو أنه تم انتخاب آل غور لكان من المرجح أن يزيد من وتيرة الضربات العسكرية الموجهة إلى العراق في غضون أسابيع من توليه منصبه.
* *
بعد وصولهم إلى السلطة، لم ينتظر حشد بوش طويلاً لسفك الدم العراقي. بعد أقل من شهر من توليه منصبه، ضربت صواريخ كروز بغداد، مما أسفر عن مقتل عشرات المدنيين.
ثم جاءت هجمات 11 أيلول (سبتمبر). وبعد ساعات فقط من يوم الكارثة ذاك، عقد رامسفيلد اجتماعًا في غرفة الحرب.
وأمر مساعديه بالحصول على “أفضل المعلومات في أسرع وقت ممكن. قدِّروا ما إذا كانت جيدة بما يكفي لضرب ص. هـ” -يعني صدام حسين- في الوقت نفسه.
ليس فقط “أ. ب. ل” -الأحرف الأولى لأسامة بن لادن. “اعملوا بحزم وقوة”. وتقتبس الملاحظات التي دونها هؤلاء المساعدون قوله: “اكتسحوا كل شيء. الأشياء ذات الصلة وغير ذات الصلة”.
وقام بالكشف عن هذه الملاحظات ديفيد مارتن من محطة “سي بي إس نيوز”. وبدأت الاستعدادات للإطاحة بصدام في ذلك اليوم، تحت ذريعة أن صدام كان مرتبطًا بطريقة ما بكاميكازيي بن لادن الوهابيين.
في ذلك الحين، كان رامسفيلد يعرف أن هذه العلاقة وهمية، وعلى الرغم من الكثير من التهديد والوعيد والحفر والنبش، لم تصبح هذه الادعاءات أكثر مصداقية على مدار العام ونصف العام التاليين.
في الأشهر التي سبقت الحرب “الساخنة” الثانية، التي اشتعلت في 19 آذار (مارس) 2003، تم تقديم العديد من النظريات حول الدافع الرئيسي لمعسكر الحرب: هل كانت هذه خطة الصقور من المحافظين الجدد الموالين لإسرائيل؟
هل كان الأمر كله يتعلق بالنفط و-(تنويع فرعي) لأن صدام كان يصر على أن يُدفع له ثمن نفطه باليورو؟ هل كانت، في أعقاب هجمات 11 أيلول (سبتمبر)، تريد أن تكون رسالة حاسمة عن قوة الولايات المتحدة (هذا هو التفسير المفضل حاليًا في البيت الأبيض)؛ هل كانت في الأساس تغييرًا للموضوع وصرفًا للانتباه عن الركود الاقتصادي المحلي؟
الجواب هو ذلك البعيد عن المؤامراتية من الأساس: أنها كانت مزيجًا من كل هذه الأشياء. كانت سياسة بوش الأولية في الأشهر الأولى من صعوده المتخبط إلى السلطة والبعيدة كل البعد عن موقف القلب الخافق للقوة الأميركية العنيدة التي أصبحت عليها بعد 11 أيلول (سبتمبر) قد غيرت كتاب القواعد.
كانت أحداث 11 أيلول (سبتمبر) هي ما أعطى المحافظين الجدد فرصتهم، وسمح لهم بالمضي قدمًا والتغلب في نهاية المطاف على غرائز جزء كبير من النخب السياسية والشركات.
بالنسبة للعديد من أعضاء هذه النخب، كان بقاء صدام حسين مجرد ومضة صغيرة على شاشة الرادار. وفي ما يلي سرد مفيد لما كان يشغل هذه النخب، قدمه جيفري غارتن، الذي كان أول وكيل وزارة للتجارة الدولية في عهد كلينتون، الذي كتب في مجلة “بيزنس ويك”:
”لم تكن أكبر القضايا التي واجهتها الإدارة ذات طبيعة عسكرية، وإنما كانت المنافسة مع اليابان وأوروبا، والأزمات المالية في أميركا اللاتينية وآسيا، والمفاوضات حول اتفاقية التجارة لأميركا الشمالية، وإنشاء منظمة التجارة العالمية ودخول الصين إليها. في نظر واشنطن، كانت سياسات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية قضايا أكبر من مستقبل حلف شمال الأطلسي.
كان فتح أسواق اليابان أكثر أهمية من موقفها العسكري في آسيا. وكانت التصنيفات التي أعطتها ’ستاندرد آند بورز‘ لإندونيسيا ذات أهمية أكبر من إرسال مستشارينا العسكريين إلى هناك.
الزحف المتهور على بغداد: الدروس الصحيحة والخاطئة من حرب العراق (1 – 2)
لقد دفعنا إلغاء القيود والخصخصة، ونفذنا مهمات تجارية ضخمة لمساعدة الشركات الأميركية على الفوز بعقود كبيرة في الأسواق الناشئة. لقد أصبح تعزيز العولمة الاقتصادية المبدأ المنظم لمعظم سياستنا الخارجية. وكانت الشركات الأميركية شركاء فعليين على طول الطريق”.
كان هذا سردًا جيدًا للكيفية التي كانت تنظر بها أجندة النخب الأميركية عبر الفتحات في أسوار الإمبراطورية: قم بإدارة العرض بأفضل ما يمكنك، ولكن لا تهز القارب أكثر مما يجب، بمعنى التصرف بشكل صارخ كرجل العصابات العالمي الرئيسي: تفكيك مجلس الأمن، وتعكير صفو العالم العربي، وإثارة الاضطرابات الشعبية في تركيا، كل ذلك كان يعد هزًا قويًا للقوارب على نطاق خطير.
بحلول نهاية المناقشة الوطنية التي دامت نصف عام حول جدوى مهاجمة العراق، كان كبار رجال الأعمال ما يزالون يمضغون أظافرهم ويرتعدون من الأرقام الاقتصادية؛ كانت صحيفة “نيويورك تايمز” ضد الحرب، وفقد جورج الابن دعم والده، الذي أصدر توبيخًا واضحًا خلال جلسة أسئلة وأجوبة أقيمت في تافتس في منتصف الربيع.
وبالمثل، أعرب أقرب مساعدي جورج الأب، جيمس بيكر وبرنت سكوكروفت، عن عدم موافقتهم على الحرب.
ولكن، في مواجهة هذه المعارضة، أثبتت العوامل السياسية المحلية أنها ذات أهمية قصوى وساحقة. كان مناخ ما بعد 11 أيلول (سبتمبر) يوفر لليمين الأميركي أكبر فرصة له منذ الأيام الأولى لإدارة ريغان، وربما حتى منذ أوائل الخمسينيات لوضع جدول أعماله الأساسي موضع التنفيذ بدأب استخلاص الدم من الحجر: ممارسة السلطة غير المقيدة في الخارج، والتراجع في الداخل عن جميع المكاسب الليبرالية منذ بداية “الصفقة الجديدة”.
وليس ذلك فحسب، بل كانت تلك فرصة أيضًا لإحداث تأثير دائم لإضعاف شراء الدعم اليهودي والأموال التي يحتفظ بها الحزب الديمقراطي منذ ترومان.
كان هذا القدر واضحًا تمامًا: لقد أمضى المسؤولون الأميركيون سنوات في اتخاذ قرارات، عن علم، والتي أدت إلى موت مئات الآلاف من المدنيين العراقيين الأكثر فقرًا، الذين يعيشون في مهد الحضارة، ومعظمهم من الأطفال.
* *
كنتُ قد احتفظت بمجموعة من الاقتباسات والأقوال عن حرب العراق لسنوات. وفي ما يلي جرد لهذه الأقوال؛ من الذي قالها، وما الذي قالوه ومتى، وهو ما يوفر نوعًا من التاريخ الشفوي للحرب -في الغالب من وجهة نظر الجناة …
”قال منشق عراقي وصف نفسه بأنه مهندس مدني، إنه عمل شخصيًا في تجديد منشآت سرية للأسلحة البيولوجية والكيميائية والنووية في الآبار الجوفية والفيلات الخاصة وتحت مستشفى صدام حسين في بغداد قبل عام”.
- جوديث ميلر، صحيفة “نيويورك تايمز”، 20 كانون الأول (ديسمبر) 2001
”الدعم الذي يتمتع به صدام، بما في ذلك داخل تنظيمه العسكري، سينهار بعد أول نفحة من البارود”.
- ريتشارد بيرل، رئيس مجلس سياسة الدفاع في البنتاغون، 11 تموز (يوليو) 2002
”ببساطة، ليس هناك شك في أن صدام حسين لديه الآن أسلحة دمار شامل”.
- ديك تشيني، 26 آب (أغسطس) 2002
”كل يوم يبقى فيه صدام في السلطة، مع امتلاك أسلحة كيماوية وبيولوجية وتطوير أسلحة نووية، هو يوم خطر على الولايات المتحدة”.
- السناتور جوزيف ليبرمان، 4 أيلول (سبتمبر) 2002
“إذا انتظرنا حتى يتضح الخطر، فقد يكون الأوان قد فات”.
- السناتور جوزيف بايدن، 4 أيلول (سبتمبر) 2002
”شريطة عدم تحديد هويته أو البلد الذي أجريت معه المقابلة فيه، قال أحمد الشمري، وهو اسمه المستعار، إن العراق استمر في تطوير وإنتاج وتخزين العوامل الكيميائية في العديد من المواقع المتنقلة والثابتة في جميع أنحاء البلاد، والكثير منها تحت الأرض”.
وقال السيد شمري: “كل العراق هو مرفق تخزين واحد كبير”.
- جوديث ميلر ومايكل جوردون، صحيفة “نيويورك تايمز”، 7 أيلول (سبتمبر) 2002
“في الوقت الحالي، يقوم العراق بتوسيع وتحسين المرافق التي كانت تستخدم لإنتاج الأسلحة البيولوجية”.
- جورج دبليو بوش، 12 أيلول (سبتمبر) 2002
”أعلن أمامكم أن العراق خال من جميع الأسلحة النووية والكيميائية والبيولوجية”.
– صدام حسين في رسالة إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، 19 أيلول (سبتمبر) 2002
”سوف أصوت لمنح رئيس الولايات المتحدة سلطة استخدام القوة -إذا لزم الأمر- لنزع سلاح صدام حسين، لأنني أعتقد أن ترسانة فتاكة من أسلحة الدمار الشامل بين يديه تشكل تهديدًا حقيقيًا وخطيرًا لأمننا”.
– جون كيري، 9 تشرين الأول (أكتوبر) 2002
”استمرت حرب الخليج في التسعينيات خمسة أيام على الأرض. لا أستطيع أن أخبركم بما إذا كان استخدام القوة في العراق اليوم سيستمر خمسة أيام أو خمسة أسابيع أو خمسة أشهر. لكنها بالتأكيد لن تستمر لأكثر من ذلك”.
- دونالد رامسفيلد، 14 تشرين الثاني (نوفمبر) 2002
”إذا أعلن أنه لا يملك شيئًا، فسوف نعرف أن صدام حسين يضلل العالم مرة أخرى”.
- آري فلايشر، 2 كانون الأول (ديسمبر) 2002
”تحقق وكالة المخابرات المركزية في اتهام مخبر بأن العراق حصل على سلالة خبيثة بشكل خاص من بكتيريا الجدري من عالم روسي كان يعمل في مختبر للجدري في موسكو خلال الحقبة السوفياتية”.
- جوديث ميلر، صحيفة “نيويورك تايمز”، 3 كانون الأول (ديسمبر) 2002
”نحن نعرف كحقيقة أن هناك أسلحة”.
الغد