تقلبات مدارية في صفوف الميليشيات المدعومة من إيران في العراق

تقلبات مدارية في صفوف الميليشيات المدعومة من إيران في العراق

توفر النماذج الفلكية توضيحاً مفيداً بشكل مدهش للكيفية التي تمارس بها الجماعات المسلحة المدعومة من إيران في العراق القوة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.

ابتكر عالم الفلك والجيوفيزيائي الصربي ميلوتين ميلانكوفيتش مجموعة من المفاهيم مكنت العلماء من وصف دوران الأرض حول الشمس وكيفية تأثر هذا المدار بدوران الأرض حول محورها. وتُعتبر هذه المفاهيم مفيدة في وصف الاختلافات بين جماعات الميليشيات العراقية التي تدور حول “فيلق القدس” التابع لـ “الحرس الثوري الإسلامي” الإيراني، وتساعد بالتالي على وصف كل من الاختلافات بين الجماعات والاختلافات في التقارب بين الجماعات الفردية و”فيلق القدس” في لحظات مختلفة من الزمن.

هناك القليل من الكواكب التي لها مدار دائري بالكامل حول نجمها: وبدلاً من ذلك، كل منها “غير دائري المدار” قليلاً، وتكون أكثر بيضاوية خلال بعض الدورات وأكثر دائرية بشكل مثالي في البعض الآخر، اعتماداً علىمصادر الجاذبية الأخرى التي تجتذبها أو تبعدها (تشمل الأمثلة الغير دائرية المدار، فصل الصيف على كوكب الأرض أطول ببضعة أيام من فصل الشتاء، وفصل الربيع أطول ببضعة أيام من فصل الخريف). وهذا ما ينطبق على الميليشيات العراقية التي أسستها إيران لغرض معين (مثل “منظمة بدر” وجماعة “كتائب حزب الله” المنبثقة عنها، وجماعات أخرى من “المقاومة الإسلامية”) أو التي تبنتها إيران بعد تغيير النظام في العراق (مثل الجماعات الصدرية المنشقة التي شكلت “عصائب أهل الحق” أو “حركة حزب الله النجباء”، أو مختلف الميليشيات التركمانية والمسيحية واليزيدية والكردية التي نشأت منذ 2014). للاطلاع بالتفاصيل على جميع هذه الجماعات الفرعية، راجع مقال مايكل نايتس Michael Knights، “جيش الميليشيات الإيرانية الآخذ في التوسع في العراق: الجماعات الخاصة الجديدة”Iran’s Expanding Militia Army in Iraq: The New Special Groups، CTC Sentinel 12:7، 2019). لتسهيل الأمور، سيشار إلى هذه الجماعات مجتمعة بـ “المقاومة”، مما يعكس هويتها الذاتية، ولكن لن يتم التغاضي عن خصائصها الفريدة.

الاتجاهات على نطاق المنظومة في العلاقات بين إيران و”المقاومة”

النقطة الأولى التي يجب توضيحها في استعارتنا هي أن أجرام “المقاومة” العراقية تدور فعلياً حول ما يسمى بالنجمة الثنائية أو المزدوجة، المؤلفة من “فيلق القدس” التابع لـ “الحرس الثوري” الإيراني من جهة والدولة العراقية والموارد التي يمكن أن توفرها من جهة أخرى. وكان أحد الاتجاهات الرئيسية المنتشرة على نطاق المنظومة والتي ظهرت في السنوات الأخيرة هو التكافؤ المتزايد بين هذين مركزي الجاذبية. ففي المراحل التي كانت فيها الدولة العراقية متحالفة مع قوات الاحتلال بقيادة الولايات المتحدة أو، مؤخراً ولفترة وجيزة، عندما كانت تحت سيطرة مصطفى الكاظمي، رئيس الوزراء المناهض لـ “المقاومة” في الفترة الممتدة بين 2020 و 2022، اعتمدت “المقاومة” بشدة على إيران للحصول على المأوى والدعم. وفي مراحل أخرى – في ظل رؤساء الوزراء الذين كانوا تحت هيمنة “المقاومة”في الفترتين 2012-2014، و 2018-2019، والآن مجدداً في ظل “حكومة المقاومة” الحالية التي تشكلت في تشرين الأول/أكتوبر 2022 – تعتمد الدولة العراقية التمويل الذاتي.

وقد أثرت أيضاً الظروف داخل إيران و “فيلق القدس” التابع لـ “الحرس الثوري” إلى حد ما على “المسافة” التي يسطع منها نجم إيران على الميليشيات في مراحل مختلفة. فقد فرضت إيران أحياناً مصالحها الخاصة على الميليشيات العراقية، وعلى الأخص في كبح انتقامها بعد قيام الولايات المتحدة بقتل قائد “فيلق القدس” في “الحرس الثوري” قاسم سليماني وأقرب ملازم عراقي إليه أبو مهدي المهندس، في كانون الثاني/يناير 2020. وطوال عامي 2020 و2021 – أي السنتين الأخيرتين من إدارة ترامب المتقلبة – عانت إيران من حملة عقوبات “الضغط الأقصى” وخشيت من أن تستهدف الضربات الأمريكية الأراضي الإيرانية. ونتج عن ذلك فترات طويلة أثارت فيها إيران استياء الميليشيات لفرضها ضبط النفس على “المقاومة” – تجاه كل من الولايات المتحدة والمعارضين السياسيين الذين تغلبوا على “المقاومة” كما كان يبدو. على سبيل المثال، لم توافق إيران على هجوم الطائرات بدون طيار في 7 تشرين الثاني/نوفمبر 2021 على منزل رئيس الوزراء العراقي الكاظمي، مما أدى إلى توجيه توبيخ صارم من قبل قاآني وإحكام السيطرة على استخدام “المقاومة” لأنظمة الطائرات المسيّرة التي قدمتها إيران. (ولم يكن هذا التحذير الأول الذي وجهه قاآني إلى “المقاومة”. ففي 29 تموز/يوليو 2021، حذر قاآني من عدم التسامح مع الهجمات على القواعد الأمريكية، قائلاً: “ستتم محاسبة منتهكي الهدنة. زوّدنا الطائرات المسيّرة ونعلم بحوزة مَن هي. يمكننا استعادتها”. راجع مقال مايكل نايتس، وكريسبين سميث، وحمدي مالك، “الخلاف في صفوف شبكة التهديد الإيراني في العراق: السِجال والتنافس بين الميليشيات“، “سي تي سي سنتينيل” 14:8، 2021).

كما أثر مقتل سليماني بشكل مباشر على مدى تقارب العلاقات بين إيران والمقاومة. فقد كان منخرطاً بشكل وثيق في الشؤون العراقية، حتى خلال السنوات التي كان يشرف فيها أيضاً على التوسع الإيراني الكبير في الحرب الأهلية في سوريا. وأدى مقتله في كانون الثاني/يناير 2020 – ومقتل المهندس في الوقت نفسه – إلى حدوث تحولات كبيرة في كيفية تصرف إيران في العراق والجهات التي تتعامل معها. وجمعت بين القائد الجديد لـ “فيلق القدس”، إسماعيل قاآني، علاقة أقل قرباً مع قادة “المقاومة” الباقين على قيد الحياة، والذين تفرق الكثيرون منهم لأشهر بعد عمليات القتل. وبتوجيه من قاآني، تم تقسيم دور المهندس إلى قسمين: تولّي رجل (عبد العزيز المحمداوي الملقب بـ”أبو فدك” من “كتائب حزب الله”) الدور الرسمي للمهندس كقائد عملياتي لـ “قوات الحشد الشعبي” التي تمولها الدولة، وتولّي رجل آخر علناً (زعيم حركة “النجباء” أكرم الكعبي) قيادة عمليات “المقاومة” المستمرة للانتقام على مقتل سليماني والمهندس، ولإرغام القوات الأمريكية على مغادرة العراق. ومع ذلك، يبدو أن إيران استخدمت نفوذها مجدداً للحد من الخطورة المحتملة لأعمال “المقاومة” لكي تصبح شبه شكلية بطبيعتها – هجمات بالقنابل المزروعة على جوانب الطرق غير قادرة على إيذاء الأمريكيين، وهجمات بالصواريخ والطائرات المسيّرة التي غالباً ما تم تنفيذها بهدف تقليل مخاطر وقوع إصابات في صفوف القوات الأمريكية.

وفي النهاية، بدا أن أساليب قاآني الهادئة أتت بثمارها في التكيف مع التحديات السياسية التي واجهت (وكادت تدمر) “المقاومة” في الفترة 2021-2022. ومنذ كانون الثاني/يناير 2022، توقفت فجأةً جميع انتقادات “المقاومة” له بطريقة منسقة. وبحلول نيسان/إبريل 2022، فرض “فيلق القدس” التابع لـ “الحرس الثوري” على ما يبدو تعزيز عمليات “المقاومة” الإعلامية، مما أدى إلى انضباط أكبر في توجيه الرسائل. وكان دور قاآني في فرض درجة من الوحدة والتلاحم بين “المقاومة” (عبر كتلة “الإطار التنسيقي”) قيّماً، وسمح لـ “الإطار التنسيقي” بإبطال الهزيمة الانتخابية من خلال تغيير أساليب تشكيل الحكومة باستخدام التلاعب القانوني. وأثبت ذلك فعاليته الاستثنائية وسمح لـ “المقاومة” بالتحكم بعملية تشكيل الحكومة عام 2022، وبصورة غير محتملة، بالبروز على رأس النظام السياسي مع فرصة كبيرة لإحكام قبضتها بشكل دائم.

الأجرام السماوية: فصائل “المقاومة” الفردية وإيران

تبرز أربع ميليشيات رئيسية – “عصائب أهل الحق”، و “منظمة بدر”، و “كتائب حزب الله”، وحركة “النجباء” – باعتبارها ذات أهمية خاصة لـ “فيلق القدس”، على الرغم من وجود الكثير من الجهات الفاعلة الأصغر حجماً بطبيعة الحال، وحتى إشارات على أن “فيلق القدس” قد طّور سيطرة مباشرة على خلايا الميليشيات لاستخدامها في عمليات خاصة يمكن إنكارها.

وفي البيئة المسيسة للغاية حالياً، حيث يكون الاستيلاء على الدولة العراقية النجم الأكثر لمعاناً في المنظومة، تحتل “عصائب أهل الحق” بقيادة قيس الخزعلي الصدارة. فبعد النتيجة الانتخابية المخيبة للآمال في عام 2021، اعتمد الخزعلي الاستراتيجية العالية المخاطر المتمثلة بمواجهة الصدر في “المنطقة الدولية“، الأمر الذي أدى في النهاية إلى إثباط عزيمة الصدريين وأدى إلى انسحاب أنصار مقتدى الصدر من مجلس النواب في آب/أغسطس عام 2022. ويُعتبر الخزعلي الآن السياسي الأبرز في العراق، وتجمعه أكثر علاقة مقربة مع رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، ويبدو أن نهج الخزعلي المتحفظ إلى حد ما تجاه قاآني و”فيلق القدس” قد حظي باحترامهما على مضض.

كما تلعب “منظمة بدر” بزعامة هادي العامري دوراً سياسياً قيادياً في “الإطار التنسيقي” ومناصب قيادية رئيسية في مقر “قوات الحشد الشعبي”. فمقدرة هادي منذ عام 2003 كانت في عمله عبر الطيف السياسي، وليس في الطرف الأقصى المتمثل بـ “المقاومة المسلحة”، ومهاراته وعلاقاته مطلوبة بشدة مجدداً. وفي حين أن سلطة قيس الخزعلي قد تعاظمت بلا شك، إلا أنه لم يتمكن من التخلص من هادي في انتخابات عام 2021 – حيث كانت النتائج التي أحرزتها “منظمة بدر” (على الأقل)، على غرار تلك التي أحرزتها “عصائب أهل الحق”. وتجْمَع زعيم “منظمة بدر” علاقات جيدة مع جميع الجهات الفاعلة – بما فيها الحكومات الغربية والفصائل الكردية التي لا تزال تعاني من جفاء الخزعلي. ولا تزال علاقات حميمة تربط قاآني وجميع الجهات الفاعلة الإيرانية بهادي و”منظمة بدر”.

وفي حين تضطلع “عصائب أهل الحق” و”منظمة بدر” بدور كبير في المعترك السياسي – مع توابع في فساد الأموال الضخمة ومشاريع الجريمة المنظمة – تَعتبر “كتائب حزب الله” وحركة “النجباء” بأنهما جهات فاعلة خارجة إلى حد كبير عن السياسة التقليدية. وفي السنوات الأخيرة، وقَعَت “كتائب حزب الله” ضحية لخلاف داخلي كبير (تم توثيق ذلك بالتفصيل في “الخلاف في صفوف شبكة التهديدات الإيرانية في العراق: السِجال والتنافس بين الميليشيات”،”سي تي سي سنتينيل” 14:8، 2021). ويمكن تحديد ثلاثة معسكرات رئيسية على الأقل ضمن “كتائب حزب الله”، هي: حركة “حقوق” التي لديها ستة مقاعد في مجلس النواب (لكنها لا تستغلها بشكل فعال)، وجناح أبو حسين (أحمد محسن فرج الحميداوي)، وجناح باسم محمد حسب المجيدي، يسانده أبو فدك. ومعذلك، لا تزال إيران تثق إلى حد كبير بـ “كتائب حزب الله” للقيام بمهامعسكرية منفصلة – ضربات دقيقة على أهداف أمريكية و خليجية من العراق – إلّا أن الفائدة العامة لـ “كتائب حزب الله” في السياسة محدودة.

يبدو أن أكرم الكعبي وحركة “النجباء” اكتسبا مكانة مرموقة منذ مقتل سليماني والمهندس، الأمر الذي سرعان ما استغله الكعبي كفرصة لإثبات ولائه المستمر لـ “فيلق القدس”، بغض النظر عن العواقب (على سبيل المثال، إمكانية متابعة الضربات الأمريكية). ففي كانون الأول/ديسمبر 2021، تم تسجيل الكعبي وهو يخاطب جمهور “فيلق القدس” و “المقاومة” أمام أعلام جميع جماعات “المقاومة” الناشطة المتبقية المناهضة للولايات المتحدة. والسؤال المطروح للمحللين هو ما إذا كان الكعبي مؤتمناً فعلياً على سلطة حقيقية أم أنه يُستخدم بكل بساطة كواجهة عامة للمقاومة. ومع تحول عمليات “المقاومة” المناهضة للولايات المتحدة إلى أعمال استعراضية إلى حد كبير، تَعتبر إيران “المقاومة” الحركية عنصراً أقل أهمية (في الوقت الحالي)، ولو كانت ستحافظ عليه لاستخدامه في المستقبل. وعلى أقل تقدير، أبدت ميليشيا الكعبي الصغيرة تماسكاً ووحدة في وقت كانت فيه “كتائب حزب الله” تُظهر على أنها في حالة “فوضى عارمة” غير قادرة على ممارسة الانضباط الداخلي.

الاستنتاجات: علم فلك الميليشيات العراقية اليوم

تُعد إيران إحدى النجمتين في مركز المنظومة الشمسية لـ “المقاومة”، وتُعد الدولة العراقية الخاضعة لسيطرة الميليشيات النجمة الأخرى، ويمكن القول أن هذه الأخيرة تزداد إشراقاً. وفي المرحلة اللاحقة، قد يكون “فيلق القدس” التابع لـ “الحرس الثوري” الإيراني راضياً تماماً عن رؤية هيئات”المقاومة” تدور بشكل أكثر تزامناً مع الدولة العراقية ومواردها. فأقرب الفصائل إلى “فيلق القدس” في الفضاء السياسي هي “عصائب أهل الحق”، تليها “منظمة بدر”. وفيما يتعلق بالعمليات شبه العسكرية – التي يقل الطلب عليها مؤقتاً – ربما لا تزال “كتائب حزب الله” الجهة الفاعلة الأكثر فائدة لإيران، ولكن الجهة الفاعلة الأكثر بروزاً علناً هي حركة “النجباء”. وفي هذا السياق، فحتى الميليشيات الأصغر حجماً تميل إلى أن تكون شبيهىة بالأقمار، وعالقة في جاذبية واحدة أو أكثر من الميليشيات الأربع الأكبر، والمعتمدة غالباً عليها للحصول على الموارد والدعم السياسي. (يمكن فهم تصنيف الميليشيات بهذه الطريقة بشكل أفضل جغرافياً، ويتم توضيحه بالتفصيل في المقال “جيش الميليشيات الإيراني المتوسع في العراق: الجماعات الخاصة الجديدة“، بقلم مايكل نايتس في “سي تي سي سنتينيل” 12:7، 2019).

مايكل نايتس

معهد واشنطن