سؤال يقرّ بمشروعيته المتابعون لما يجري في إيران منذ وفاة مهسا أميني في مركز للشرطة الإيرانية، بعد اعتقالها بتهمة “ارتداء الحجاب السيئ” في العاصمة الإيرانية طهران، منتصف شهر سبتمبر الماضي.
وفاة الشابة خلّفت تعاطفاً شعبياً كبيراً في الداخل الإيراني، واجتاحت المدن الكبرى مظاهرات غير مسبوقة استمرت لأكثر من 3 أشهر، راح ضحيتها مئات القتلى والمصابين. ولا تزال إيران تعيش، حتى اللحظة، أصداء تلك الاحتجاجات المفصلية في تاريخ “الجمهورية الإسلامية” التي وصلت إلى الحكم عام 1979، عبر ثورة فرضت، بعد ترسيخ سلطتها، “القوانين الإسلامية” حسب قراءاتها وتفسيرها للدين.
من القوانين المثيرة للجدل هو قانون “الحجاب الإجباري” الذي ألزم النساء، مسلمات وغير مسلمات، بارتدائه في الأماكن العامة.
الموضوع في العقدين الأولين من عمر النظام لم يكن محط جدل كبير، إذ إن النظام السياسي كان، حينها، يتمتع بسلطة سياسية وشعبية، خوّلته فرض هذا القانون دون عناء أو تكلفة باهظة.
لكن بعد ذلك، لا سيما في العقد الأخير، شهد الموضوع جدلاً متزايداً وسط انتشار ظاهرة “الحجاب السيئ” بين النساء، ومحاولات النظام إجبارهن على الالتزام بالحجاب والامتثال لقوانينه، وهو ما ولّد، باستمرار، أحداثاً واعتقالات في صفوف النساء. أحداث سرعان ما تتحول إلى قضية رأي عام بين مؤيد ومعارض لإجراءات السلطة حول الموضوع.
المهم في كل ذلك أنه وبعد “انتفاضة مهسا” أصبح النظام متردداً أو بالأحرى عاجزاً عن فرض الحجاب، كما في السابق، بعد أن شهدت البلاد “عصياناً جماعياً” للنساء في ارتدائه، واعتباره شكلاً من أشكال “القهر” الذي يمارسه النظام ضد مَن يختلفون معه سياسياً وثقافياً.
الناظر اليوم في شوارع إيران، لا سيما في المدن الكبرى، كطهران وأصفهان وشيراز وكردستان والأهواز وتبريز، يرى نساء بلا حجاب، وهو ما يعد ظاهرة غير مسبوقة خلال العقود الأربعة الأخيرة، في ظل القبضة الأمنية للنظام على الحياة العامة للإيرانيين.
اتساع دائرة المعارضين لهذه القوانين، دفع بشخصيات داخل النظام نفسه إلى انتقاد سياسات الدولة في التعامل مع قضية الحجاب، على سبيل المثال رئيس البرلمان السابق وعضو تشخيص مجلس مصلحة النظام حالياً، علي لاريجاني، وصف طريقة تعامل النظام مع موضوع الحجاب بأنها “خاطئة”، مشيراً إلى أن 50 بالمائة من النساء في إيران غير ملتزمات بالحجاب، كما تريده السلطة، وبالتالي فمن الخطأ تحميل وجهة نظر معينة على هذه النسبة الكبيرة من النساء. علی مطهري، البرلماني السابق والشخصية البارزة في المشهد السياسي الإيراني، دعا النظام إلى التراجع عن موقفه حيال الحجاب الإجباري، معتقداً أن التعامل الأمني مع قضية الحجاب أتى بنتائج عكسية، ويؤكد في المقابل ضرورة العمل التثقيفي في هذا الملف، وترك ارتداء الحجاب من عدمه لاختيار النساء أنفسهن.
لكن كل هذه المواقف لا تزال تصطدم بموقف النظام الذي يشوبه الغموض، حيث لا تُعرف ماهية الخطة التي يريد اعتمادها مستقبلاً في التعامل مع قضية الحجاب، فهل يعلن النظام تراجعه عن الموضوع، ويصبح الأمر حرية شخصية؟ وماذا يترتب على ذلك، إن حدث، من نتائج اجتماعية وسياسية؟
هل يقبل التيار المتشدد داخل النظام وأنصاره في الشارع هذه الخطوة أساساً؟ هل يعود النظام إلى سياساته السابقة في فرض الحجاب؟ كل ذلك لا يزال غير محسوم في الداخل الإيراني، لكن خبراء ومحللين ومسؤولين سابقين لا ينفكون يقدمون النصح للنظام ومطالبته بالتوقف عن السياسات الخاطئة في التعامل مع الموضوع، لا سيما أن البلاد تشهد احتقاناً سياسياً جراء الأزمة الاقتصادية المستمرة منذ سنوات.
من القوانين المثيرة للجدل هو قانون “الحجاب الإجباري” الذي ألزم النساء، مسلمات وغير مسلمات، بارتدائه في الأماكن العامة
ويبقى هناك إشكال غير محسوم في جدل الحجاب في إيران، يرتكز حول قضية الأكثرية والأقلية بالنسبة لموضوع الحجاب، فبينما يصرّ النظام على أن أقلية من النساء هي التي ترفض ارتداء الحجاب والانصياع لقوانينه حول الموضوع؛ يرى المنتقدون لهذه السياسات أن الأكثرية الساحقة من الإيرانيين ترفض “الحجاب الإجباري”، أو على الأقل تتعاطف مع النساء الرافضات له، ما يفرض على النظام ضرورة احترام حرية الأشخاص.
ما يقلق في موضوع الحجاب وتداعياته هو موقف هرم السلطة في إيران المرشد علي خامنئي الذي يبدو وكأّنه يميل إلى الإصرار على مواقفه في هذا الملف، كما في الملفات الأخرى، معتقداً أن “الأعداء” هم الذين يقفون وراء أزمة الحجاب، وأن الإيرانيين -إلا القليل منهم- يقفون في وجه هؤلاء الأعداء الأجانب الذين يستهدفون استقرار إيران سياسياً واقتصادياً وثقافياً، موجهاً استخباراته وأجهزته الأمنية إلى التصدي ومواجهة هذه “الهجمة الشرسة” ضد إيران.
مراقبون في الداخل ينتقدون، على استحياء وحذر، هذا الصلف والتصلب في مواقف المرشد، ودأبه في تحميل كل مشاكل إيران الداخلية والخارجية لـ”الأعداء”، مؤكدين ضرورة إعادة النظر، قبل فوات الأوان، في كثير من القضايا، وعلى رأسها الإصلاح الداخلي، عبر اعتماد سياسة مرنة ومنفتحة على المختلفين مع أيديولوجية الدولة، وكذلك الانفتاح على الخارج بعد التخلي عن خطاب العداء مع الغرب والولايات المتحدة الأميركية.
بعض هؤلاء المراقبين يشعرون بنوع من اليأس من إصلاح الوضع، ذاهبين إلى أن النظام ماض في سياساته، سواء على صعيد الداخل أو الخارج، مشيرين إلى تجاهله المستمر دعوات الإصلاح التي تقدمت بها شخصيات كثيرة خلال السنوات الماضية، وآخرها دعوة الرئيس الأسبق محمد خاتمي في نوفمبر الماضي، حيث دعا خاتمي النظام إلى “إصلاحات جذرية” و”شاملة”، وحذّر من الاستمرار في تجاهل الظروف الحالية.
أما مير حسين موسوي، أول رئيس وزراء في إيران بعد الثورة، والخاضع للإقامة الجبرية منذ عام 2010، فدعاً، في فبراير الماضي، إلى “إنقاذ إيران”، عبر “تجاوز الجمهورية الإسلامية” وتشكيل نظام جديد، وهي دعوة حظيت بدعم شخصيات سياسية بارزة تقبع في السجون أمثال فائزة هاشمي، ابنة الرئيس السابق هاشمي رفسنجاني، ومصطفى تاج زاده المقرب من الرئيس السابق محمد خاتمي ووزير داخليته، بالإضافة إلى نشطاء آخرين، مثل حسين رزاق، ومهدي محموديان، وسعيد مدني، الذين أصدروا بياناً مشتركاً من محبسهم يؤيد دعوة مير حسين موسوي.
اليائسون من الإصلاح، كما أسماهم بعض المراقبين، لا يرون أي أمل في تحسّن الأوضاع في إيران، ما دام النظام الحالي قائماً، ويفسّرون أي تراجع أو تغيير في الخطاب على أنه مؤقت عابر، ويأتي تحت ضغط المرحلة، ويتوقع هؤلاء المحللون، أمثال السیاسي الإصلاحي سعيد ليلاز، أن نهاية النظام الإيراني ستكون شبيهة بنهاية الاتحاد السوفييتي، مؤكداً أن كل نظام يسلك أيديولوجية معينة، ويحاول فرضها على سياساته الداخلية والخارجية سيكون مصيره الانهيار من الداخل قبل الخارج.
العربي الجديد