منذ “إعلان بكين” الذي وضع السعودية وإيران على خط التطبيع الدبلوماسي والسياسي والإعلامي في مقدمة لتطبيع اقتصادي مرتقب، دخلت إسرائيل في حقبة زمنية معقدة تبحث فيها قياداتها عن سياسة جديدة تمكنها من إعادة تموقعها في محاورالمنطقة وتؤمن لها ما تحتاجه من ضمانات للاستمرار في ظل تعاظم صراعها مع إيران، وتبدل معطيات علاقاتها مع الدول العربية. فإعادة توزيع المعادلات بين العرب وإيران وعودة تجميع الحكومات العربية لبعضها البعض فاجأ الحكومة الإسرائيلية سياسياً حتى ولو كانت تحصل على المعلومات استخباراتياً.
فالحصول على تقارير حول ما يجري مع الصين وإيران والآن مع سوريا لم يغير شيئاً في هذا التطور الكبير، لأن ما حصل قد حصل ولم يكن ممكناً للقيادة الإسرائيلية أن تغيره لأنه كان أكبر من قدرتها فهو يذهب إلى عمق أعماق واشنطن، وكان محتماً أن يحصل بعد أن قرر البيت الأبيض أن يسير بما سار به غير آبه بحلفائه العرب. الحكومتان المتعاقبتان في القدس كانتا تتوقعان أن تصل السعودية حتمياً إلى اتخاذ قرار كبير مع حلفائها العرب للحفاظ على أمنها القومي واستقرارها التنموي والتشديد على قرارها السيادي. ولكن حكومة بنيامين نتنياهو لم تتوقع لا البعد ولا السرعة في التنفيذ، أو على الأقل هذا ما فهمناه. من هنا لنستطلع موقف القيادة الإسرائيلية من تطورات إعلان بكين.
بين أوباما وترمب
مما هو واضح أن حلقة التحرك الإسرائيلي قد تبدلت بشكل واسع ما بين فترتي باراك أوباما ودونالد ترمب بسبب التغيرات الكبيرة التي طرأت على سياسة واشنطن منذ 2009. إذ إنه قبل تشكيل إدارة أوباما كان الضغط الأميركي على إسرائيل قد خف نسبياً منذ ضربات 11 سبتمبر (أيلول). فالحروب العربية – الإسرائيلية التي انفجرت منذ قرار التقسيم وإعلان الأمم المتحدة للدولتين العربية واليهودية في 1947، بدأت تتراجع منذ قرار أنور السادات اختيار مفاوضات السلام لحل مسألة الأراضي العربية المحتلة بما فيها سيناء والجولان وغزة والضفة الغربية. وخروج مصر من المواجهة كان عاملاً خفف الضغط على الإسرائيليين، وسقوط الاتحاد السوفياتي وإطلاق آلية أوسلو في التسعينيات من القرن الماضي وتوقيع اتفاقيات السلام مع الأردن ومنظمة التحرير خفف الضغط بشكل أكبرعلى الحكومات الإسرائيلية.
أما بعد 11 سبتمبر فانتقلت الأنظارالعالمية من الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني إلى ما سمي “بالحرب على الإرهاب” وساحات معاركها من أفغانستان إلى العراق إلى دول أخرى. ومع انفجار ما سمي بـ “الربيع العربي” انتقلت الصورة إلى حروب أهلية في عدد من الدول العربية إلى بزوغ تنظيم “داعش” وانقلاب الاتفاق النووي الإيراني، ابتعد الضغط العربي عن إسرائيل في الملف الفلسطيني، ولكن التهديد الإيراني تصاعد بوتيرة عالية على إسرائيل وعلى الخليج بآن معاً، وتصاعدت أيضاً تهديدات “الإسلامويين” عامة والإخوان خاصة على الحكومات والمجتمعات العربية، مما أدى إلى تعبئة عربية ضد الانفلاش الإيراني والتهديد الأصولي لسنوات، وانحسرت التعبئة العربية لمصلحة “الملف الفلسطيني”، مما وفر مساحة أوسع لإسرائيل لتتحرك ضد إيران.
وجاءت أجندة أوباما الساعية لاتفاق مع إيران وشراكة مع الإخوان لتصعق عرب الاعتدال، فتجبرهم بالدفاع عن شعوبهم ودولهم كأولوية، وتقاطعت جهودهم الدفاعية ضد الخطرين مع الأجندة الإسرائيلية المواجهة لطهران. ومع قيام إدارة ترمب بتغيير سياسة سلفها تجاه القوتين الخمينية والإخوانية، وبعد قمة الرياض في مايو (أيار) 2017، مضت الأطراف الثلاثة في اتجاه واحد ولو كانت متفرقة، أي أميركا والتحالف العربي وإسرائيل. وأدى ذلك إلى انسحاب الإدارة من الاتفاق النووي، ووضع “الباسدران” على لائحة الإرهاب وإلى توقيع معاهدة “أبراهام”. وكانت كل هذه التطورات المبنية على “مصلحة استراتيجية مشتركة” قد أفادت الأطراف الثلاثة، واستفادت إسرائيل من تقاطع لم تختبره في تاريخها، لا سيما بعد توقيع “الاتفاق الإبراهيمي” وما نتج منه من اتفاقيات أمنية مع الإمارات والبحرين. ولكن الأمل الأكبرعند القيادات الإسرائيلية كان بانضمام أهم دولة إسلامية في العالم، أي السعودية، إلى شراكة إقليمية تحت رعاية أميركية. واعتبرالإسرائيليون أنهم أنجزوا فتحاً تاريخياً استراتيجياً، عندما وافقت المملكة على السماح للطيران المدني الإسرائيلي أن يعبر مجالها الجوي في رحلات مباشرة إلى الخليج. وذهب بعض المحللين إلى التنظير بأن هذا يشير إلى السماح للطيران الحربي الإسرائيلي باستعمال الأجواء السعودية لمهمات جوية داخل إيران. ولكن كل هذه المعادلات توقفت منذ إعلان بكين.
تأثير بكين على إسرائيل
من أهم ما جاء في الإعلان الثلاثي في العاصمة الصينية هو التطبيع الشامل بين السعودية وإيران، وفي أساس التطبيع عدم السماح لاستعمال أراضي الطرفين في أعمال عسكرية ضد الطرف الآخر، مما يعني أنه لن يسمح للطيران الإسرائيلي بأن يعبر الأجواء السعودية في طلعات عسكرية، وربما أيضاً حتى الرحلات المدنية، التي قد يجري ربطها بالملف الفلسطيني. وهذا التطور – أي حياد السعودية المطلق – سيشكل أكبر مؤثر على الأمن القومي الإسرائيلي حيث ستخسر وزارة الدفاع في تل أبيب مساحة تحرك هائلة ضد إيران وهي كامل الجزيرة العربية ومعها عملياً أجواء الخليج، التي لا يمكن لإسرائيل أن تصلها بسهولة إذا منعت من تلك المساحات الجوية. وسيتقلص فضاء العمليات الجوية الإسرائيلية إلى سوريا والعراق للتمكن من الوصول إلى عمق إيران.
التأثير الثاني على إسرائيل سوف يكون سياسياً واقتصادياً، حيث أن معاهدة “أبراهام” كانت واعدة ليس فقط بجسراقتصادي مالي ثقيل بين دبي والمنامة وتل أبيب، مما كان ليفعّل التبادل التجاري مع سائر شركاء المعاهدة في المغرب والسودان، وقدامى كامب دايفيد في القاهرة وعمّان، بل الأهم بالنسبة لإسرائيل كان ليكون دخول السعودية على خط التبادل الدبلوماسي مع الدولة العبرية لأن ذلك كان مفتاح التشريع السياسي داخل العالم الإسلامي ككل. ولكن المعادلة تغيرت بحدة لأسباب تعرفها القيادة الإسرائيلية. فإدارة الرئيس الأميركي جو بايدن انقلبت على سياسة ترمب كما كتبنا سابقاً. ولم يكن بإمكان المملكة إلا أن تدافع عن مصالحها وتعدل في استراتيجياتها لتحاكي المرحلة، وبالتالي تتبع خط المصلحة الوطنية الذاتية ومعها مصلحة شركائها العرب، في خضم التغييرات الدولية المتسارعة. القيادة الإسرائيلية تدرك الآن أنها اقتربت من الحصول على أقصى ما ابتغته تحت إدارة ترمب في الشرق الأوسط وعليها الآن أن تتأقلم مع الواقع الجديد.
عناوين المرحلة الجديدة
بالنسبة للحكومة الإسرائيلية وأكثريتها في الكنيست، بعض الأمور سيلحقها التغيير وبعضها قد يستمر ويتطور، وهذه لائحة محتملة قصيرة بها:
1- عسكرياً، ستخطط إسرائيل على صعيد مواجهتها مع إيران على أساس الاتكال على الذات فقط، من دون مشاركة أميركية كبيرة للعامين المقبلين، حتى الفترة الرئاسية المقبلة، إلا إذا حدث أمر كبير من جانب إيران.
2 – اقتصادياً، ستحاول إسرائيل المحافظة على مكاسبها عبر معاهدة “أبراهام” بأي ثمن، حتى ولو لم تتوسع إلى السعودية وغيرها الآن. ستعزز ما حصلت عليه وتنتظر مرحلة جديدة.
3- سياسياً ودبلوماسياً، ستسعى الحكومة الإسرائيلية إلى تعزيز الاعترافات الدبلوماسية التي حصلت عليها عبر كافة اتفاقيات السلام، ولا سيما منذ صيف 2020 ولكنها تنتظر أن يطالبها التحالف العربي بخطوة على صعيد السلام الإسرائيلي – الفلسطيني للحفاظ على المكاسب “الإبراهيمية”.
4- إقليمياً، إذا نجح الاتفاق السعودي مع إيران، قد تتفاجأ المنطقة بمبادرات سعودية – صينية لصيغة وقف الحرب بين إيران وإسرائيل. ولكن هكذا معادلة صادمة ستحتاج لتغيير جذري في الموقف الإيراني. وهذا أمر ليس مطروحاً حتى الآن.
في الخلاصة، غيرت قمة بكين حسابات إسرائيل في المنطقة، ولكن إعادة تقييمها للمرحلة الآتية لن تكون بالضرورة مشابهة إلى أية حالة عرفناها في الماضي.
اندبندت عربي