بين إغلاق المصافي وعرقلة النقل وشركات الطيران والشحن، بدأت المظاهرات والإضرابات الرافضة لإصلاح قانون التقاعد تلقي بثقلها بشكل ملموس على الاقتصاد الفرنسي، إذ تقدر تكلفتها بالمليارات، فضلا عن تأثر مصداقية وصورة اقتصاد البلاد في المشهد العالمي بشكل عام.
ما تداعيات الإضرابات على الاقتصاد الفرنسي؟
يرى أستاذ الاقتصاد والعلاقات الدولية في جامعة السوبرون كميل ساري أن قطاع النقل من بين القطاعات الأكثر تضررا من الاحتجاجات المستمرة منذ أسابيع، إذ تبلغ خسارة السكك الحديدية الفرنسية “إس إن سي إف” (SNCF) نحو 20 مليون يورو في كل يوم إضراب، لأنه يتعين عليها سداد آلاف التذاكر ودفع تعويضات للمسافرين.
أما بالنسبة للنقل العام في باريس “آر إيه تي بي” (RATP)، فتصل الفاتورة إلى 3 ملايين يورو في اليوم الواحد، و8 ملايين يورو لشركة الطيران “إير فرانس” (Air France).
ويقدر ساري، في حديثه للجزيرة نت، أن الناتج المحلي الإجمالي الفرنسي يعاني من انخفاض بنسبة 0.3%، مع توقعات بوصوله إلى 0.6% إذا استمرت المظاهرات على الوتيرة نفسها.
كما أن نشاط الشركات والمتاجر يتباطأ بنسبة 20% على الأقل في يوم الإضراب، لا سيما في باريس التي تعدّ قلب المظاهرات ضد قانون إصلاح نظام التقاعد، وتعاني 6 شركات من أصل 10 انخفاضا في حجم المبيعات بسبب الإضراب، وفق منظمة المؤسسات الفرنسية “إم إي دي إي إف” (MEDEF).
وبحسب بيانات تحالف التجارة، تسببت مظاهرات يوم 23 مارس/آذار الماضي في انخفاض حجم التداول اليومي بـ19% في باريس، و60% في رين، و30% في بوردو، و29% في تولوز.
من جانبها، استنكرت غرفة التجارة والصناعة “سي سي آي فرنسا” (CCI France) التأثير السلبي للمظاهرات على النشاط التجاري، مشيرة إلى أن التجارة المحلية في فرنسا تمثل 634 ألف شركة و3.5 ملايين وظيفة.
ما القطاعات الأكثر تضررا؟
تسببت الإضرابات والاحتجاجات في عرقلة نشاط قطاعات حيوية في البلاد، خاصة النقل والطاقة، حيث قام عدد من العمال المنتمين إلى الحركات الاجتماعية بإغلاق العديد من محطات الطاقة النووية التابعة لشركة كهرباء فرنسا “إي دي إف” (EDF).
ويقول داميان مارتينيز، عضو إدارة فدرالية لاتحاد الخدمات العامة “سي جي تي” (CGT)، إن “تعطيل محطة للطاقة النووية يكلف مليون يورو في اليوم الواحد، وإذا ضربنا هذا الرقم في عدد المفاعلات في فرنسا فستكون الفاتورة باهظة للغاية”.
ويأتي ذلك بالتزامن مع عدم قدرة البلاد على إنتاج الكهرباء بسبب أعمال الصيانة في عدد من المفاعلات، مما يرغمها على شراء الكهرباء من الدول الأوروبية الأخرى، الأمر الذي يضاعف التكلفة النهائية للطاقة.
وفيما يتعلق بقطاع الوقود، فقد توقفت المصافي الفرنسية عدة مرات عن الإنتاج، وتعاني عدد من المحطات من نقص الوقود بسبب مشاكل في التوريد.
ويوضح مارتينيز -في حديث للجزيرة نت- أن النقابات لا تختار قطاعات معينة على حساب أخرى، لأن الأمر مرتبط بالموظفين الذين يضربون عن العمل، فعلى سبيل المثال، لم يكن لإضراب عمال النظافة أي تأثير اقتصادي مباشر، لكنه سلط الضوء على حجم الأزمة وجعل الجميع يتساءل عما يحدث في فرنسا في كل أنحاء العالم.
لماذا تحاول الحكومة حجب المعلومات عن تداعيات الإضراب على الاقتصاد الفرنسي؟
حاولت الجزيرة نت التواصل مع وزارة الاقتصاد والجمعية الوطنية للسكك الحديدية الفرنسية وشركة “توتال إنرجيز” (TotalEnergies) وغرفة التجارة، للحصول على أرقام رسمية عن الضرر الذي تتسبب فيه الإضرابات، إلا أن تلك الجهات امتنعت عن التعليق أو تقديم رد.
واعتبر المحلل الاقتصادي كميل ساري أن “هذا الامتناع غير المبرر، نوع من الخداع، لأن الحكومة تمتلك كل المعلومات المفصلة عن الأزمة الحالية، وتتوفر إداراتها على أشخاص متخصصين في هذا الشأن، لكن لحسن الحظ يوجد تقارير تكشف عن حجم الضرر على الاقتصاد الفرنسي”.
في حين يرى مارتينيز -عضو النقابة العمالية الأبرز في البلاد- أن حجب المعلومات الذي تنهجه الحكومة الفرنسية مرتبط بعدم رغبتها في منح المصداقية للحركة الاحتجاجية، قائلا “يمكننا أن نرى ذلك جليا في الفارق الكبير بين الأرقام التي نعلنها نحن وتلك التي تكشفها الحكومة عند الحديث عن عدد المشاركين خلال الاحتجاجات، إنها دعاية واهية تهدف إلى تقليل تأثير الصراع الاجتماعي وجعل الإضراب يتراجع”.
هل يمثل ضرب الاقتصاد ورقة ضغط لكسب المعركة؟
ترى النقابات العمالية وباقي المعارضين لقانون إصلاح نظام التقاعد، الذي يصر عليه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أن الحكومة خسرت معركتها ضد الحركة الاحتجاجية، لأن هذه الأخيرة تمكنت من إقناع الشعب بضرورة رفض بنود القانون جملة وتفصيلا.
ويقول مارتينيز إن “مطالبنا عادلة ومشروعة، إلا أن رئيس الجمهورية اتخذ خياره السياسي لطمأنة أصدقائه الأغنياء على حساب الشعب الفرنسي بأكمله، وهذا ما لا تتحدث عنه وسائل الإعلام المحلية”.
ومنذ بدء المظاهرات في يناير/كانون الثاني الماضي، وصل الرفض الشعبي للقانون إلى مستوى تاريخي، مما يفتح الباب أمام توقعات بتمكين المعارضة السياسية من الطعن في الإصلاحات من أجل اقتراح استفتاء شعبي بشأنها.
ويوضح مارتينيز أن “ثقافة إضراب العمال لم تمت بعد، وعند النظر إلى تاريخ الحركة الاجتماعية، يمكننا الافتخار بأنه بفضلها استطاع الفرنسيون في عام 2006 إجبار رئيس الوزراء الفرنسي دومينيك دوفيلبان على التخلي عن عقد العمل الأول “سي بي إي” (CPE)”، الذي يقترح عقودا جديدة لمن هم دون سن 26 عاما لمدة أقصاها سنتان يمكن خلالها لأرباب العمال فصل الموظف دون سبب وجيه.
يؤكد الخبير الاقتصادي كميل ساري أن الحكومة لن تتراجع عن تطبيق القانون الجديد خاصة بعد لجوئها للمادة 49.3 من الدستور لتمرير الإصلاحات دون الحاجة لتصويت من البرلمان، لأنه على الرغم من خسارة نسبة مهمة من الناتج المحلي الإجمالي الفرنسي، فإنها قد تعوّض ذلك بعد 10 سنوات من خلال ضمان 37 مليار يورو للمعاشات التقاعدية.
وأضاف أن حكومة ماكرون تراهن على التراجع التدريجي لوتيرة الإضرابات على المدى الطويل، لأنها تعي أن المضربين يتعرضون لخسارة مالية مهمة من رواتبهم في كل يوم يشاركون فيه في الإضراب.
ورغم وجود صناديق للإضراب تشرف عليها عدد من النقابات العمالية، فإنها تظل محدودة وغير قادرة على تعويض مئات الآلاف من المضربين في كل أنحاء البلاد.
ويرى ساري أن المظاهرات الحالية ضعيفة مقارنة بمظاهرات عام 2006 عندما خرج الفرنسيون للاحتجاج ضد “عقد العمل الأول” في فترة رئاسة جاك شيراك، فعلى سبيل المثال، كانت كل خطوط الميترو في باريس وضواحيها متوقفة على عكس ما يحدث الآن حيث لا تؤدي الإضرابات إلى شل حركة النقل بشكل كامل وفعال.
في الوقت نفسه، يعتقد المحلل الاقتصادي أن أهم ما يقلق حكومة ماكرون اليوم هو تطرف الحركة الاجتماعية وتحولها إلى أعمال عنف. ففي حادثة غير مسبوقة، أحرقت حركة السترات الصفراء مقر بلدية بالكامل في منطقة هوت لوار في ديسمبر/كانون الأول 2018، وعند زيارة الرئيس الفرنسي للمكان لدعم الموظفين هناك، تعرض لهجوم مباشر من السترات الصفراء، لكنه استطاع الإفلات منهم والفرار بفضل سيارته المدرعة.
المصدر : الجزيرة