هل ظهرت ملامح النظام العالمي الجديد الذي تقوده الصين؟ سؤال طرحته صحيفة “واشنطن بوست” في تقرير أعده إيشان ثارور وقال فيه إن الدبلوماسية شهدت أسبوعا حافلا، حيث رافق الرئيس الصيني شي جينبنغ ضيفه الفرنسي إيمانويل ماكرون في زيارة استمرت ثلاثة أيام للعاصمة الصينية بيجين وللمدينة الكبرى في الجنوب غوانزهو. وفر ماكرون ولو لفترة قصيرة من المتظاهرين الذين احتجوا على قانون التقاعد، حيث استقبلته بدلا من ذلك حشود المرحبين به في جامعة صن يت- صن في غوانزهو.
وبين المراسيم الاحتفالية وجلسات الشاي رأى القائدان مجموعة من الشركات الفرنسية والشركات التي تديرها الدولة الصينية ووقعا عددا من العقود. وقدم شي ما أراد ماكرون معرفته عن نظرته: تذكير واضح للولايات المتحدة التي أشار إليها شي بالطرف الثالث المهيمن والفجوة بين موقفها المتشدد مع موقف دول أوروبية اتسم بالمراوغة.
ولم يكن واضحا ما قدمه شي لماكرون سياسيا: فقد حث الرئيس الفرنسي نظيره الصيني على إعادة روسيا إلى “عقلها” بسبب غزوها لأوكرانيا، لكن كلامه قوبل بخطاب نمطي لم يحرك بوصلة الصراع في اتجاه مهم. وفي مؤتمر صحافي مع فرنسا حث شي على “استئناف محادثات السلام سريعا” و”حماية المدنيين” وكرر أهمية “عدم حصول حرب نووية” بسبب أوكرانيا. وربما كانت النقطة الأخيرة، أكبر مسافة بين شي والرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي لوح بالخيار النووي منذ أن بدأ غزوه المستمر. ورغم دعوات القادة الأوروبيين لم يظهر شي أي التزام بالحديث مع الرئيس الأوكراني فولدومير زيلينسكي.
ورافقت ماكرون، رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، حيث قدم المسؤولان رسالتين متباينتين، فمن جهة اشتكت فون دير لاين من الممارسات الصينية التجارية “غير المنصفة”، ووصلت إلى البلد بعد خطاب شديد ألقته حول الخطر الديكتاتوري الذي تمثله الصين. ومن جهة أخرى حذر ماكرون الغرب من الانزلاق في “دوامة من التوترات التي لا مفر منها” مع الصين.
واقترح المعلقون الصينيون أن تغيير الطاولات للتاريخ يقترح اعترافا من ماكرون بثقل الصين وأهمية اقتصادها، وبخاصة في وقت يحاول فيه ماكرون خط طريق قوي وقادر ومستقل لأوروبا. وكتب كل من جانغ جي وجو شينغ في مقال نشر قبل فترة “مع أن هناك مظاهر قلق في فرنسا بشأن دور بلدنا العالمي المتزايد، فإن دعم الصين ضروري لو أرادت فرنسا ممارسة قوتها الناعمة في الحكم العالمي”. ووسط زيارة ماكرون حدثت قمة كبرى في العاصمة الصينية بين السعودية وإيران حيث التقى وزيرا خارجيتهما في أول لقاء كبير منذ سبعة أعوام. وفي واشنطن وعدد من الخبراء الإقليميين نظروا بدهشة للدور الذي لعبته الصين لتحقيق الاستقرار.
والمحادثات السعودية- الإيرانية تجري منذ وقت وليس بسبب الدور الصيني فقط، حيث حذر المحللون أن استئناف العلاقات جاء بسبب تلاقي المصالح. فقد بحثت إيران التي تعاني من عقوبات وتواجه اضطرابات عن طرق لتخفيف العزلة الدولية والإقليمية، أما السعودية فتواجه تهديدات أمنية من إيران تمثل خطرا على خطط التحول الاقتصادي وتعمل على تخفيف التوترات الإقليمية، وهي استراتيجية عنت البحث عن علاقات مع دول عظمى أخرى غير الولايات المتحدة. ولكن هذا يظهر خفوت التأثير الأمريكي وبخاصة على السعودية، كما تقول أنا جاكوب، المحللة البارزة في شؤون الخليج بمجموعة الأزمات الدولية “افترض عدد من الخبراء أن البيت الأبيض أيا كان ساكنه سيرشد السياسة السعودية من إيران، ولكن هذا ليس صحيحا اليوم”.
ونقلت “نيويورك تايمز” عنها قولها “السعودية ودول الخليج العربية تركز على الاقتصادي والمصالح الأمنية والسياسية وحماية نفسها من التهديدات الإقليمية”. وهنا تبدو الصين وقوتها الاقتصادية واستعراضها لعضلاتها الجيوسياسية أو كما قال هنري كيسنجر، وزير الخارجية السابق “أعلنت الصين في السنوات الماضية عن الحاجة للمشاركة في خلق نظام عالمي جديد” و”حققت تقدما مهما في هذا الجانب”.
ولا نعرف كثيرا عن معالم النظام العالمي الصيني، لكن ملامحه برزت من خلال مبادرة الحزام والطريق لبناء البنى التحتية حول العالم، وتحدث شي وإن بغموض عن الأمن والمدنية التي تتحدى بشكل أساسي النظام الذي تقوده أمريكا. ويقول مورتيز ردولف، من جامعة ييل إن كلامه “يبدو كجدل مضاد لأجندة بايدن الديمقراطية ضد الديكتاتورية”، مضيفا “هي معركة أيديولوجية جذابة للعالم النامي أكثر مما تعتقده واشنطن”. وقال جو جينبو، عميد معهد الدراسات في جامعة فودان في شنغهاي “في الماضي كنا نعلن عن بعض المبادئ، ونوضح موقفنا بدون أن نتحرك عمليا”.
وبالنسبة للبعض فزيارة ماكرون هي تذكير بالأسئلة الصعبة التي تواجه أوروبا، ففي وقت ألهبت أوكرانيا مشاعر أوروبا ووحدت جانبي الأطلنطي إلا أن الصين تظل شائكة بسبب اعتماد القارة على التجارة والتعامل معها. وهناك الوضع في تايوان والسيناريوهات المتوفرة لدى صناع السياسة الأمريكيين وإمكانية غزو الصين لها. وفي رد على أسئلة الصحافيين حول مستقبل تايوان قال ماكرون إنهم مع أمريكا في سياستها، بعيدا عن الفزع والتناقض الظاهري، ولكنه تساءل عن الموقف الأوروبي وإن كان من مصلحة دول القارة التصعيد بشأن الجزيرة، مجيبا لا. وأضاف أن أسوأ شيء يفعله الأوروبيون هو متابعة أمريكا في سياسة التصعيد والصين في ردها المفرط.
وكتب أندرو ميشا من المجلس الأطلنطي “ما يحدث في أوروبا اليوم ليس فيما يتعلق بنتيجة هذه الحرب، ولكن كيف سيعرف الأوروبيون علاقتهم مع الصين وهو ما سيشكل التنافس الأمريكي- الصيني في مسارح أخرى أيضا”.
القدس العربي