فى حوار مفتوح مع مجموعة من الشباب الأمريكى غير الحزبى حول الحرب الروسية الأوكرانية أعربوا عن تأييدهم القوى لموقف الإدارة الأمريكية وحلف الناتو من تقديم المساعدات المالية السخية، والمدد العسكرى غير المحدود لأوكرانيا بغية هزيمة روسيا ومنعها من التقدم غربا، لأن ذلك يمكن أن يدفعها إلى التوسع فى دول أوروبا الشرقية ومن ثم حصار الناتو واحتواء النفوذ الأمريكى فى أوروبا. وهكذا نجحت الآلة الإعلامية الغربية فى غسيل مخ شعوبها وهى ذات الآلة التى لم تؤثر على توجهات شعوب دول الجنوب نحو تلك الحرب، والتى تسببت فى زيادة معاناتها الاقتصادية و(المالية). فإن كانت هذه المخاوف الأوروبية حقيقية فربما يمكن التعاطف معها.
بيد أن سير الأحداث يؤكد أن الغرب هو الذى بدأ عمليات الاستفزاز لروسيا حينما تم تسريب معلومات حول إمكانيات واحتمالات ضم أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبى وحلف الأطلنطى، وهو ما يشكل تهديدا مباشرا وصريحا للأمن القومى الروسى وسلامة أراضى روسيا. وربما يكون من المفيد أن نذكر أن روسيا كانت جزءا من التحالف الأوروبى، حيث كانت جزءا من دول المركز فى الحرب العالمية الأولى إلى جانب بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة ضد ألمانيا والإمبراطورية النمساوية المجرية والإمبراطورية العثمانية، وبعد الانتصار تم توزيع المستعمرات بين فرنسا وبريطانيا، ولم تستسغ روسيا نظام الوصاية الدولية الاستعمارى، كما كانت روسيا عضوا فاعلا فى التحالف البريطانى الفرنسى الأمريكى ضد دول المحور، ألمانيا وإيطاليا واليابان. ومرة أخرى ذهبت المستعمرات إلى بريطانيا وفرنسا باسم نظام الانتداب، وحينما انتقل العالم إلى النظام الثنائى بين الولايات المتحدة من ناحية والاتحاد السوفيتى من ناحية أخرى، لم يدخل الأخير فى حرب مباشرة ضد الولايات المتحدة. على النقيض من ذلك، ففى الأزمة الكوبية قرر الرئيس السوفيتى خروتشوف سحب الصواريخ النووية من كوبا تجنبا لحرب نووية بين الطرفين. فما الذى جرى، ولماذا هذا العداء الأوروبى المقيت لروسيا؟ وكيف يتعامل الغرب مع هذه الأزمة والتى تنتظر «الواقعة» أى عود الثقاب الذى يشعل الحرب النووية بين الطرفين والتى بالقطع ستهلك البشرية التى ليس لها فى هذا الصراع لا ناقة ولا جمل.
لا عازة للتأكيد على أن العلاقات الدولية حبلى بسلوك صراعى وتعاونى دائم، وأن للدول ذاكرة كالأفراد، تتراكم فيها كافة خبراتها، فإذا احتدم الصراع انقلب الأمر إلى أزمات تبحث إما عن تهدئة، وإما عن حادث يقود إلى إشعال نيران الحرب المدمرة. قامت الحرب العالمية الأولى كرد فعل مباشر لواقعة اغتيال ولى عهد النمسا فرانز فرديناند، وأشعل احتلال ألمانيا لبولندا الحرب العالمية الثانية، ضحايا الحرب العالمية الأولى 37 مليون قتيل، وبعدها الإنفلونزا الإسبانية والتى حصدت قرابة 100 مليون، والكساد الاقتصادى الكبير خاصة فى الولايات المتحدة، وأنجبت الحرب العالمية الثانية النظام الدولى ثنائى القطبية ومنظومة الأمم المتحدة، وانقسام العالم إلى شمال وجنوب.
التحليل المتعمق للحرب الروسية الأوكرانية يشير إلى مجموعة من الخطايا الاستراتيجية الغربية، والتى تعكس أزمة فكرية طاحنة فى أوروبا والولايات المتحدة، حيث تسعى إلى التأكيد على سمو الحضارة الغربية على ما عداها وأن ذلك يؤهلهم لاستمرار قيادة النظام الدولى، بيد أن هذا الإصرار يعاند الدروس التاريخية ذات المصداقية العالية. إذ انتهت جميع الحضارات القديمة: المصرية، والصينية، والإغريقية، وكذلك الإمبراطوريات الاستعمارية كالبريطانية والفرنسية، والإسبانية، والبرتغالية. وكان توينبى فى دراسته الموسوعية «دراسة التاريخ» قد أرجع ذلك إلى أنه حينما تتنازل الحضارة أو الإمبراطورية عن القيم الجوهرية التى هيأت إنشاءها وسيطرتها، فإنها تسقط لتحل محلها حضارة أخرى أو قوى جديدة تحمل قيما تعالج الخلل الذى تسببت فيه الحضارة المضمحلة. ولمقاومة الحتمية التاريخية، لجأ الغرب إلى مجموعة وسائل وأدوات تؤكد على الأنانية الجيوستراتيجية والتى لا تلقى بالا بالحد الأدنى لمصالح الآخرين حيث أدت إلى اضطراب خطوط الإمداد الدولية وارتفاع الأسعار خاصة فى دول الجنوب بصورة مدمرة. فمن ناحية اتخذت مجموعة من القرارات المتسرعة والتى لا تمت إلى الرشادة بأية صلة من العقوبات الاقتصادية الشاملة على روسيا وحصارها اقتصاديا وحرمانها من السوق الأوروبية للنفط والغاز الطبيعى، ثم تحولت إلى بناء التحالفات ليس فقط مع دول حلف الناتو، وإنما مع دول مناطق بعيدة ولكنها قريبة من الصين صاحبة المصلحة أيضا فى بناء نظام دولى تعددى ينهى سيطرة الغرب ويفتح فرص مشاركة الآخرين وبناء التحالفات هى الخطوة الضرورية قبل الانتقال إلى الحرب الشاملة، وتقديم كافة أشكال وأدوات المساعدات العسكرية لأوكرانيا ومنها أسلحة ذات مكونات نووية من نوع اليورانيوم المنضب. هذا التصعيد منقطع النظير كان لابد أن يستفز الرئيس بوتين، فمن ناحية وجد فى الصين ضالته لاستيراد فائض النفط والغاز، وأعلن عن نقل بعض الأسلحة النووية إلى بيلاروسيا، وهو ما يعنى حدود بولندا عضو الناتو. وقد يتم تكريس قوات الناتو فى بولندا، وهكذا خلقت اللامبالاة الغربية الظروف المواتية لحرب نووية مهما كان مستواها ــ تكتيكية محدودة أو شاملة، إذن وصل الوضع بين روسيا من ناحية والغرب من ناحية أخرى إلى أزمة حادة. وفى هذه الحالة فإن هناك حدا أقصى للأزمة (Threshold)، وليس من خروج منها إلا ببديلين، إما الحرب الشاملة والتى تنتظر عود الثقاب الذى يشعل فتيلها، والمتوقع أن يأتى بطريق بولندا، كما حدث فى الحرب العالمية الثانية. وفى هذه الحالة لا نسأل عن مآل البشرية التى سوف يندثر على الأقل ثلثها، ويتم تلويث الثلث الآخر بالإشعاع النووى. ويصارع الثلث الثالث من أجل البقاء، وإما أن تقوم الدول المتوسطة والواعدة فى النظام الدولى القادم مثل الهند ومصر وجنوب أفريقيا والبرازيل ونيجيريا والسعودية والإمارات… وغيرها بمبادرة إبداعية لإطفاء النيران بين روسيا وأوكرانيا، والتوصل إلى تسوية قوامها التنازلات المتبادلة. وسوف يكون ذلك ممكنا فقط فى حالة ما إذا قبل المغرب بالتغيرات الدولية الراهنة الكبرى والتى تهيئ المناخ لإقامة نظام دولى أكثر تعددية وأثرى تنوعا.
د. عبدالمنعم المشاط
صحيفة الشروق المصرية