من حق السعودية أن تعيد النظر

من حق السعودية أن تعيد النظر

كثيراً ما يدور الحديث خلال الأسابيع الأخيرة حول التداعيات التي قد تشهدها العلاقة بين السعودية والولايات المتحدة الأميركية نتيجة الاتفاق الثلاثيالذي وقعته الرياض مع إيران برعاية ومشاركة من الدولة الصينية، وتذهب القراءات والتحليلات باتجاهات عدة وما يمكن أن تتركه من أثر سلبي في العلاقة بين الرياض وواشنطن نتيجة المساحة التي فتحها هذا الاتفاق لدخول أكثر تأثيراً للخصم الصيني على ساحة الشرق الأوسط من بوابة الوساطة المثمرة التي قام بها بين الطرفين، وأن هذا الدور المتقدم لبكين قد يؤدي في أحد نتائجه إلى تقليص النفوذ الأميركي أو على حسابه في هذه المنطقة الحيوية التي تحوي نحو 58 في المئة من مخزون الطاقة العالمية، وبالتالي قد يؤسس إلى تباعد بين الرياض وواشنطن ويقود العلاقة بينهما نحو نوع من التوتر.

لا شك أن هذه القراءات في تعاملها مع المشهد الجديد أخذت بعين الاعتبار المصلحة الأميركية، انطلاقاً من كيفية وآلية تعاطي إداراتها مع دول المنطقة، وهي قراءة نمطية لا ترى سوى الخوف من رد فعل واشنطن وما قد تلجأ له من سياسات عقابية أو تصعيدية ضد الدول والأطراف التي تعمل من خارج سياق مصالح الإدارة الأميركية الإستراتيجية.

ومنذ عام 2003 والكشف عن وجود برنامج نوويإيراني سري دخلت منطقة الشرق الأوسط في حال من عدم الاستقرار السياسي وتراجع الثقة بالنظام الإيراني وطموحاته، وقد عززتها أيضاً النتائج التي انتهت إليها العمليات العسكرية والاحتلال الأميركي لكل من أفغانستان والعراق، وما أسهمت به من توسيع للدور والتأثير الإيرانيين في هذه المنطقة، إذ استطاعت طهران التمدد وبناء منظومة حلفاء في الإقليم استخدمتها في مواجهة الضغوط والحصار الأميركي ضدها، والانتقال إلى بلورة مشروعها على حساب مصالح الدول العربية.

ولا يخفى على أي متابع موضوعي أن الإدارة الأميركية استثمرت إلى أقصى حدود التهديد الإيراني الذي لا أحد ينكره، ولعبت دوراً معرقلاً لأي تقارب أو حوار بين الدول العربية والنظام الإيراني كان من الممكن أن ينتج تفاهمات واتفاقات تحد وتعوق هذا التمدد الإيراني الذي اعتمد سياسة وإستراتيجية القضم وملء الفراغات نتيجة ضبابية الموقف العربي في مواجهته، فضلاً عن استغلال الإحجام الأميركي عن القيام أو اتخاذ موقف رادع أو حازم يحد من تنامي الدور والنفوذ الإيرانيين في هذه المنطقة.

وفي المقابل استخدمت واشنطن وإداراتها المختلفة سواء الجمهورية أو الديمقراطية انهيار جدار الثقة العربية بالنظام الإيراني كجزء من سياستها في التعامل مع أزمتها مع طهران، وهو عامل لعبت طهران دوراً سلبياً في تعزيزه لأنها أيضاً وظفت التهديد المتنامي لمشروعها الإقليمي في إخافة الدول العربية التي رأت فيه تناقضاً وتصادماً وتهديداً حقيقياً لأمنها القومي واستقرار دولها وأمنها الداخلي.

ويمكن القول إن واشنطن عرقلت أي مبادرة أو رغبة عربية وتحديداً سعودية على مدى العقدين الماضيين على الأقل، بخاصة المحاولات التي تصب في مساعي تحييد التهديد الإيراني والتقليل من تأثيراته السلبية، على غرار ما حصل في الاتفاقين اللذين سبق أن تم التوصل إليهما بين الرياض وطهران عامي 1998 و2002، واللتان فرضتا على طهران سلوكاً مختلفاً نتيجة إجبارها على مراعاة ما تم التوافق والاتفاق عليه بين البلدين.

إلا أن السلوك الأميركي مع مصادر القلق العربي والخليجي لم يأخذ سوى المصالح الأميركية وكيفية الوصول إلى الهدف الذي تريده واشنطن، ولعل المفاوضات النووية التي قادها جون كيري وزير خارجية الرئيس الأسبق باراك أوباما تشكل تلخيصاً مكثفاً لهذا السلوك، فهذه الإدارة لم تتردد في تقديم تنازلات أمام طهران من أجل الوصول إلى أهدافها، ولم تأخذ المطالب أو المواقف والمصالح العربية على محمل الجد واكتفت بوضع هذه الدول في أجواء ما تم الاتفاق عليه.

ولم تختلف السلوكات الأميركية مع وصول الرئيس السابق دونالد ترمب الذي وضع المنطقة والدول العربية على حافة المواجهة مع النظام الإيراني، وقد جاء قراره الانسحاب من الاتفاق النووي وإعادة فرض العقوبات على إيران خدمة للمصالح الأميركية التي عبر عنها بوضوح في إستراتيجية إدارته للتعامل مع إيران، والتي أكد فيها أن بلاده لم تحصل على أية استثمارات من الاتفاق مع طهران، في وقت حصل الآخرون على كل الفرص وكان على استعداد لتقديم مزيد من التنازلات التي تضاف إلى تنازلات سلفه في مقابل التوصل إلى تفاهم وحوار مباشر مع النظام الإيراني.

ولا تختلف إدارة الرئيس الحالي جو بايدن عن السياق العام للإدارات الأميركية، فهي حاولت الاستثمار في إبقاء التوتر قائماً بين طهران ومحيطها العربي، وفرض مزيد من الحصار والضغوط على النظام لإجباره على الجلوس إلى طاولة حوار وتفاوض مباشر معها بحيث تكون قادرة على تأمين مصالحها أولاً.

القرار الذي اتخذته القيادة السعودية بالانتقال من حال القطيعة إلى حال الحوار مع النظام الإيراني لا شك في أنه يقوم على قراءة جديدة لهذه القيادة في بناء سياساتها على مصالحها ومصالح العالم الذي تقوده وتتزعمه، وأن المرحلة لم تعد تسمح بتقديم أثمان مجانية خدمة لمصالح الآخرين وعلى حساب المصالح الوطنية، وأنها قادرة على لعب دور مؤثر في المعادلات الإقليمية من خلال الانتقال إلى التفاوض المباشر مع الطرف الذي يعتبر مصدر القلق والأزمة، وعدم الاكتفاء بالتفاوض غير المباشر عبر الإدارة الأميركية التي تعمل مصالحها الخاصة فقط.

إعادة النظر السعودية في التعامل مع الملفات الخارجية والسياسات الدولية والإقليمية لا يعني بالضرورة القطيعة مع الإدارة الأميركية أو التخاصم معها، بل يشكل مرحلة جديدة في رؤية القيادة السعودية انطلاقاً من المقولة العربية القديمة “أهل مكة أدرى بشعابها”، فهذه القيادة أدرى بمصالحها والآليات التي تعتمدها من أجل توفير مصالحها، وبالتالي فإن مبادرتها لفتح حوار والاتفاق مع طهران محكوم بالمصلحة السعودية الداخلية والإقليمية بما يساعد في تحييد القلق الإيراني وطموحاته الإقليمية والنووية لأن النظام الإيراني سيكون مجبراً على تقديم تنازلات والتوافق انطلاقاً من مصالحه أيضاً والتي تساعده في تخفيف وتفكيك الضغوط الأميركية والحصار الذي تفرضه على مختلف المستويات والاتجاهات.

اندبندت عربي