عام 1926، وصف المفتش العام التركي حمدي بك، محافظة ديرسم “أنها دملة في جسد الجمهورية التركية، ولا بد من استئصالها لسلامة البلاد. والخطر يزداد مع تكاثر العنصر الكردي هناك”. كانت هذه العبارات مقدّمة لما سيحدث بعد عشر سنوات.
ديرسم، التي جرى تغيير اسمها إلى تونجلي عام 1935، هي المنطقة التي ينحدر منها زعيم حزب الشعب الجمهوري كمال كليجدار أوغلو، منافس الرئيس رجب طيب أردوغان في الانتخابات الرئاسية المقررة في مايو/أيار المقبل.
شهدت ديرسم في منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي أحداثا دامية عقب حملة عسكرية شنتها الحكومة المركزية التركية لوضع المنطقة الكردية تحت سيطرتها، وانتهت بمقتل وتهجير الآلاف من السكان، الأمر الذي يصفه الأكراد بـ “المجزرة”.
بعد تاريخي
اصطدم طموح الأكراد العلويين، أبناء تلك المنطقة، بالمحافظة على وضعها الخاص حيث كانت تتمتع بما يشبه الادارة الذاتية، برؤية بمؤسس الدولة التركية الحديثة مصطفى كمال أتاتورك لدمج الإثنيات في الأناضول، باعتبارها “وطناً قوميا للأتراك”.
بعد أن ضمنت اتفاقية سيفر عام 1920، التي فرضت فيها الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى الصلح على السلطنة العثمانية، حكما ذاتيا للأكراد، جاءت معاهدة لوزان عام 1923، لتطلق يد حزب الشعب الجمهوري بقيادة أتاتورك.
وبين هذين العامين، قمع الجيش التركي تمردا كرديا قامت به عشيرة كوجكري، قبل أن يندلع تمرد أكبر بقيادة الشيخ سعيد بيران عام 1925، انتهى بإعدام الأخير مع العشرات من أنصاره.
على ضوء محاولات الحكومة التركية تهجير جماعات كردية إلى غرب البلاد، وإحلال جماعات تركية وتركمانية وآذرية مكانها في منطقة آغري، اندلع تمرد كردي عام 1927، انتهى إلى لجوء المتمردين إلى جبل أرارات عام 1930.
شرّع قانون صادر عام 1934 إخلاء المناطق لأسباب ثقافية أو سياسية أو عسكرية، بقصد “خلق دولة ذات لغة واحدة وعقلية واحدة، وذات مشاعر موحدة”، الأمر الذي مهد لأحداث ديرسم عام 1937.
“التطهير”
ديرسم هي منطقة جبلية تقع بين سيواس وإرزينجان وإيلازيغ، وتمتد على مساحة 90 كيلومترا من الشرق إلى الغرب و70 كيلومترا بين الشمال والجنوب.
ووفّرت تضاريسها أماكن لجوء واختباء لأبناء المنطقة حيث تنتشر فيها الوديان والكهوف والغابات والجبال العصية.
سيد رضا، الزعيم الروحي الواسع النفوذ، كان يقود ما تصفه بعض المصادر بـعملية “عصيان”.
بعد عدة مناوشات بين المسلحين الأكراد أبناء المنطقة والجيش التركي، انطلقت حملة عسكرية استخدمت فيها الحكومة سلاح الجو والمدفعية.
أرسل سيد رضا خطابا إلى رئيس الوزراء عصمت إينونو انتقد فيه ما وصفه باتباع الدولة لـ “سياسات معادية للأكراد تتمثل في الاستيعاب والتهجير وأخيرا شنها حرباً مدمرة”.
وفي سبتمبر/ أيلول من العام 1937، ذهب سيد رضا للتفاوض في إرزينجان، حيث اعتقل وأعدم مع ابنه وآخرين في ساحة بوغداي في إيلازيغ.
رغم ذلك، لم تتجه الأمور نحو التهدئة. فاستأنفت مجموعات المتمردين هجماتها ضد قوات الأمن في أوائل عام 1938، ما دفع الحكومة برئاسة جلال بايار إلى إطلاق حملة كبيرة للسيطرة على الوضع.
قدّر عدد قتلى تلك الحملة بحوالى 13 ألف كردي، بينما تم تهجير الآلاف من الرجال والنساء والأطفال. يقول الأكراد أن الرقم أعلى من ذلك بكثير، ويصفون ما حصل بأنه كان “مجزرة”.
عام 2011، أصبح أردوغان أول زعيم تركي يعتذر عن أحداث ديرسم، وقال إن حزب الشعب الجمهوري كان وراء هذه “الكارثة الدموية وعليه مواجهة هذه الحادثة”.
جاء ذلك الاعتذار وسط تجاذبات بين أردوغان وكليجدار أوغلو، وفي الفترة التي سبقت مرحلة المفاوضات مع حزب العمال الكردستاني، حيث أدت ثلاثة عقود من الحرب بين الدولة ومسلحي الحزب إلى مقتل أكثر من 40 ألفا وتدمير آلاف القرى وتهجير مئات الآلاف.
مفارقة كليجدار أوغلو
بعد 86 عاما، تحضر هذه الواقعة إلى الذاكرة مع ترشح كليجدار أوغلو للرئاسة التركية، وهو الذي كان من بين ضحايا تلك المأساة حيث تعرضت أسرته للتهجير من ديرسم.
رغم ذلك، كليجدار أوغلو، العلاهي المذهب، هو زعيم حزب الشعب الجمهوري، وعلماني النزعة.
يوضح المختص بالشأن التركي جو حمورة أن مذهب “العلاهية” ( أحد فروع المذهب العلوي) في تركيا “غير معترف به كطائفة دينية بل كثقافة”، ولذلك فإن العلمانية تحميهم كأقلية.
يضيف حمورة أن “هناك في حزب الشعب الجمهوري تيار علاهي يعتقد أن العلمانية تؤمّن نوعا من المساواة مع الأكثرية”.
ولكن كيف تنعكس هذه المفارقة على حظوظ كليجدار أوغلو؟
يقول حمورة إنه أمر محسوم أن ينتخب العلمانيون كليجدار أوغلو، وكذلك معارضو أردوغان كحزب السعادة الذي أيّد ترشيح كليجدار أوغلو.
بينما “لن يحظى أردوغان بأصوات كل الإسلاميين”.
لكن سيطرة “استقطاب طائفي على الانتخابات ” قد لا يخدم كليجدار أوغلو لأنه لن يؤدي إلى زيادة عدد ناخبيه، بل سيؤدي إلى ردة فعل لدى الأغلبية السنية لتندفع بقوة نحو انتخاب أردوغان” حسب رأي حمورة.
بي بي سي عربي