حرب سوريا بدأت بشيء، ووصلت إلى شيء آخر، ولا أحد يعرف بماذا وإلى ماذا ومتى تنتهي. وفي كل مرحلة أدوار ثابتة، وأخرى متغيرة. قوة المعارضين العابرين للطوائف المطالبين بنظام ديمقراطي تلاشت حين تحولت الثورة حرباً. قوة التيارات التي تمثل الإسلام السياسي سيطرت على الساحة عبر “الإخوان المسلمين” و”القاعدة”، ثم “داعش” قبل أن تتلقى ضربات قوية وتضعف. النظام الذي أوشك على “السقوط خلال أسبوعين” باعتراف وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، حافظ على نفسه بدعم إيراني وروسي، ولكن في بلد تتقاسم الأرض والنفوذ فيه “خمسة جيوش أجنبية”، كما قال الموفد الدولي، غير بيدرسون، أمام مجلس الأمن. الدور الإيراني تنامى. الدور الروسي تعاظم. الدور الأميركي ضعف. الدور التركي لعب على أكثر من مسرح. الدور العربي غاب تقريباً. ودور الأمم المتحدة صار مجرد دور شكلي.
وكما في حسابات المقاطعة العربية للنظام وتعليق عضوية سوريا في الجامعة العربية، كذلك في حسابات الانفتاح العربي اليوم على دمشق. سجالات ورهانات عدة. منطق المقاطعة كان الرهان على تغيير النظام، لكن النتيجة حماية طهران للنظام ومد نفوذها العسكري والسياسي والاقتصادي والثقافي في دمشق وسواها. وحين عجزت إيران عن وقف الهجوم على دمشق استنجدت بموسكو، فقرر الرئيس فلاديمير بوتين التدخل عسكرياً للحفاظ على النظام. ومنطق الانفتاح السياسي اليوم هو أن الاحتضان العربي لسوريا مسألة ملحة لوقف النفوذ الإيراني، وضرورة لاستعادة الدور العربي لسوريا “قلب العروبة النابض”. لا، بل إن مرحلة التراجع العربي كان سببها المهم فقدان المحور الأساسي للعمل العربي المشترك. وهذا المحور هو المثلث المصري – السعودي – السوري الذي دقت الساعة لعودته.
أميركا ترفض الانفتاح على دمشق، ولا تشجع أي دولة على الانفتاح. غير أن موقفها لم يحل دون الانفتاح العربي. وهي تربط تغيير موقفها بشروط أبرزها حدوث تسوية سياسية بين النظام والمعارضة تطبيقاً للقرار الدولي 2254، مما يمهد لإعادة الإعمار وعودة اللاجئين. وفي أميركا آراء مختلفة عبر عنها أستاذ العلاقات الدولية في “جامعة تكساس” غريغوري كوز في مقال نشرته “فورين أفيرز”. ومما جاء فيه، إن “على أميركا التعامل مع الحكام الأقوياء في المنطقة وإن كانوا أوتوقراطيين. سوريا تحت حكم نظام قوي تستطيع منع المنظمات الإرهابية من استخدام أراضيها، ومع الوقت تضع مسافة بينها وبين حماتها الإيرانيين والروس، وستكون أفضل من سوريا الحالية. والأفضل الاتصال بالرئيس الأسد لأن سوريا أيام الأسد الأب والأسد الابن أبقت الحدود هادئة مع إسرائيل، ومنعت المنظمات الإرهابية من استخدام أراضيها للتحضير لشن هجمات على الولايات المتحدة”.
وبالطبع، فإن وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان ركز في محادثاته مع رئيس النظام السوري بشار الأسد على أهمية التسوية السياسية وعودة اللاجئين وإعادة الإعمار. والسؤال هو: هل هناك فرصة لتخفيف النفوذ الإيراني المتنامي في سوريا ولبنان والعراق عبر الانفتاح العربي والرهان على دور روسي؟ يروي جون بولتون الذي عمل مستشاراً للأمن القومي أيام الرئيس دونالد ترمب في مذكراته تحت عنوان “الغرفة حيث حدثت” قول بوتين له عشية قمة هلسنكي في عام 2018، “أبلغ ترمب أن الروس ليسوا في حاجة إلى الإيرانيين في سوريا، ولا مصلحة لروسيا في وجودهم هناك”. وفي مناسبة ثانية قال له “الشيء الصحيح الذي يجب أن يفعله كل منا هو تحفيز الإيرانيين على المغادرة”، لكن موسكو اليوم في حرب غير مباشرة مع أميركا في أوكرانيا. وهي تحتاج بشدة إلى إيران ومسيراتها من نوع “شاهد” التي تقصف المدن الأوكرانية. والسؤال المتمم له هو: إلى أي حد يمكن استعادة المحور المصري – السعودي – السوري لقيادة العالم العربي؟ الرهان هو على أن تقود الحسابات العربية الاستراتيجية والجيوسياسية إلى تجاوز ما فرقه “كامب ديفيد”، ثم حرب سوريا، بالتالي قيام محور عربي قوي أمام القوى الإقليمية التي تلعب على المسرح العربي. والعامل الجديد هو الاتفاق السعودي – الإيراني في بكين برعاية الصين وضمانها، والذي يحتاج تظهير مفاعيله إلى وقت.
اندبندت عربي