تكمل روسيا وإيران والصين ما بدأته الولايات المتحدة في باب الصراع الإستراتيجي والجيوسياسي الذي يتمحور حول تغيير التوجه.
بينما رسم الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما ما سماها نقلة نوعية في “المحور” من الشرق الأوسط وأوروبا إلى الشرق الأقصى حيث الثروة والقوة، وضعت روسيا قبل الهجوم العسكري على أوكرانيا حداً لأحلام الغرب الأميركي والأوروبي في جذبها إلى المدار الأوروبي، فأعلنت أنها قطب أوراسي مقابل أوروبا وأميركا وركزت على آسيا والشراكة مع الصين وإيران، ثم أشعلت النار في أوروبا لمواجهة الغرب و”الناتو”.
أما إيران، فقد لعبت تكتيكياً مع الغرب لأهداف اقتصادية قبل أن تقوم بنقلة إستراتيجية نحو آسيا والطموح إلى اللعب مع روسيا والصين كأنها قوة كبرى مثلهما ضمن تحالف يقطع مع الغرب. ولم يكتم المرشد الأعلى علي خامنئي القول أخيراً إن “أميركا تذوب بالتدرج ومركز السلطة سينتقل إلى آسيا التي ستكون مركز المعرفة والاقتصاد والقوة السياسية والعسكرية، ونحن في آسيا”.
الصين من جانبها ذهبت نحو “شراكة بلا حدود” مع روسيا واتفاق إستراتيجي مع إيران من دون أن تقطع على نفسها الطريق إلى الغرب الأميركي والأوروبي ومعه، بل إن موسكو بدأت تتحدث بلسان وزير الخارجية سيرغي لافروف عن “عالم ما بعد الغرب”. فيما طهران ترفع شعار إخراج أميركا من “غرب آسيا” وتمارس سياسة التوجه نحو الشراكة مع شرق آسيا، لا سيما مع الصين وروسيا. فهل صار العالم بالفعل في مرحلة “ما بعد الغرب”؟
ما يبرر العداء للغرب ليس قليلاً وما مارسه الغرب على مدى عقود من سياسات الصراع والتنافس مع الصين وروسيا وإيران ليس قليلاً أيضاً في إطار حلم عبثي هو التأثير في سياسات تلك الدول من باب التعاون والاتفاقات. لكن الحديث عن “عالم ما بعد الغرب” هو “فانتازيا” روسية وإيرانية، فلا الصين تريد التخلي عن العلاقات مع الغرب مهما كبر حجم الشراكة مع روسيا وإيران، ولا آسيا التي يراها خامنئي مركز القوة هي كتلة واحدة.
مصالح بكين الاقتصادية والتكنولوجية مع الغرب واسعة، والدول الآسيوية الـ10 في منظمة “آسيان” إلى جانب أميركا حريصة على تمتين مصالحها مع كل من واشنطن وبكين. وهذا ما يسميه الزميل في معهد بحث آسيا بالجامعة الوطنية في سنغافورة كيشور محبوباتي، “طريق آسيا الثالث” في مقالة نشرتها “فورين أفيرز”.
محبوباتي يسجل بداية أن “الصراع الجيوسياسي في زمننا هو بين أميركا والصين، وبقية العواصم تبحث عن المستقبل في عصر التنافس بين الدول الكبرى”. يقول، “لكن منطقة جنوب شرقي آسيا تسير على خيط رفيع لضمان ثقة الطرفين”. 10 دول في آسيان بلغ دخلها 3 تريليونات دولار، وتجارتها مع الصين وصلت إلى 669 مليار دولار ومع أميركا 364 مليار دولار.
الصين تستثمر من دون مواعظ ضمن مشروع “الحزام والطريق”، وأميركا تصر على المواعظ السياسية إلى جانب الاستثمار. وفي رأي الدبلوماسي السنغافوري تومي كوه، فإن “أميركا والصين والهند غير قادرة على سوق المنطقة نحو ما تريده منها لأنها بلا أجندة موحدة”.
كثيرون، كما يقول أستاذ القضايا السياسية والدولية في جامعة برنستون جون إيكنبري تحدثوا “عن تصورات ما بعد الغرب، ما بعد أميركا، ما بعد الليبرالية، لكن الولايات المتحدة ستبقى مركز النظام العالمي، ليس فقط بسبب قدراتها المادية ودورها كمحور لتوازن القوى الكونية، بل أيضاً من أجل أفكارها وقدرتها على بناء الشراكات والتحالفات”. حتى في “نادي فالداي” الروسي للحوار، فإن البيان الختامي جاء دعوة إلى “انسجام الاعتدال” بدل بحث الدول الكبرى عن الهيمنة لأن “الهيمنة لم تعد ممكنة والسعي إليها لم يعد عقلانياً”. ولا شيء يوحي بأن أميركا تتخلى عن الهيمنة مع أنها لم تعد أميركا الصاعدة بقوة بعد الحرب العالمية الثانية.
لا أحد يجهل سعي كل من روسيا وإيران إلى الهيمنة وسط خطاب صيني ضد الهيمنة، لكن “العامل الذي يصنع الفارق الحاسم في الصراع على الأفضلية بين الكبار ليس القوة العسكرية والاقتصادية، بل المميزات الأساسية للمجتمع الذي يولد الإنتاج والابتكار التكنولوجي”، كما يرى مايكل مازار من “راند كوربورايشن”.
واللعبة بين محور الغرب وما يسمى “محور آسيا” في آسيا وأوروبا والشرق الأوسط وأفريقيا وأميركا اللاتينية ليست ذات بعد واحد، بل معقدة متعددة الأبعاد. وسياسات “الحدائق الخلفية” للكبار تقود إلى كوارث وعداء، من الشعور المعادي لأميركا في أميركا اللاتينية إلى نظيره لروسيا في أوروبا بعد الهجوم على أوكرانيا، مروراً بما أنتجته الهيمنة الإيرانية من مشاعر سلبية في العالم العربي نحو طهران وصولاً إلى نظيرتها اليابان وكوريا الجنوبية وفيتنام والفيليبين ضد طموحات الهيمنة الصينية.
اندبندت عربي