من الطبيعي أن تأخذ استقالة الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني الأدميرال علي شمخاني أبعاداً مختلفة، وألا يكتفي المتابعون في دوائر القرار الدولية والإقليمية بالإعلان الرسمي الذي يصنف في خانة الإجراءات الروتينية والطبيعية لأي نظام أو سلطة أو إدارة.
فالكلام عن المدة الزمنية التي أمضاها شمخاني في موقعه والتي بلغت 10 أعوام قد لا يكون مسوغاً، لأن سوابق النظام، بخاصة مع سلفه الأسبق حسن روحاني، خرجت عن هذه القاعدة، إذ بلغ مجموع ما قضاه روحاني على رأس المجلس الأعلى للأمن القومي 16 عاماً، ولم يخرج من هذا الموقع إلا بعد وصول محمود أحمدي نجاد إلى رئاسة الجمهورية، وما فرضته هذه الرئاسة من تغييرات في هرمية مواقع القرار لتكون منسجمة مع المرحلة الجديدة التي مثلها.
وقد لا يكون مقنعاً بشكل قاطع القول إن القرار صادر عن رئيس الجمهورية إبراهيم رئيسي باعتباره دستورياً “رئيساً للمجلس الأعلى للأمن القومي”، لاعتبار التنافس بين الشخصين الذي قد يكون نتيجة الدور المحوري الذي قام به شمخاني بعيداً من التنسيق مع رئيس الجمهورية، إلا أن قرار التعيين والإقالة في المواقع الخارجة عن الإلزام الدستوري الذي حدد الأعضاء الذين يشغلون حكماً عضوية هذا المجلس، لا يدخل ضمن صلاحيات رئيس الجمهورية ورئيس هذا المجلس، بل هو من الصلاحيات المختصة بالمرشد الأعلى الذي يملك أكثر من ممثل خاص له في هذا المجلس ومن بينها رئيس الجمهورية، إضافة إلى صفته الدستورية وأيضاً الأمين العام لهذا المجلس الذي يخضع مباشرة لإشراف المرشد وينسق معه المواقف الإستراتيجية والمصيرية.
قد يكون الرئيس الإيراني أحد أبرز المستفيدين من إبعاد أو إخراج شمخاني من المشهد السياسي، إلا أن هذا التغيير قد لا يكون بناء على رغبته أو طلب منه أو قرار صادر عنه بشكل مستقل، وأن القوى أو الغرف السوداء التي دفعت أو مهدت الأرضية لاتخاذ مثل هذا القرار واستطاعت الحصول على موافقة المرشد، بناء على المعطيات التي قدمتها له، قد تكون قدمت خدمة مجانية لرئيسي، وأن تلاقي المصالح بين الطرفين سهل عملية إقصاء شمخاني وإخراجه من المعادلة السياسية.
يعتبر شمخاني من آخر القيادات العسكرية التي تمثل الجيل المؤسس في حرس الثورة، ومن الذين لعبوا دوراً محورياً في بنية النظام الإيراني ومؤسساته العسكرية والأمنية والسياسية، وهو آخر الذين لا يزالون في مواقع متقدمة في النظام من هذا الجيل، ويبدو أنه لا ينسجم أو لا يتوافق مع توجهات الجيل الثاني الذي وصل إلى قيادة مؤسسة الحرس، واستطاع هذا الجيل أن ينقل الحرس ودوره من مستوى الدفاع وحراسة النظام والدولة في مواجهة التهديدات الداخلية والخارجية، إلى الشراكة والنفوذ والسيطرة على مفاصل النظام والدولة، وتوسع ليلعب دوراً محورياً في كل المجالات الاقتصادية مما جعله منافساً أساساً وقوياً للقطاعين العام والخاص.
القرار، ودفعهم إلى الهامش أو تفريغ دورهم من أي تأثير، كما حصل مع القائد الأسبق للحرس يحيى رحيم صفوي الذي تحول إلى مجرد مستشار للمرشد الأعلى، في حين خسر محسن رضائي كل ما يتمتع به من أوراق قوة، بخاصة تلك التي عمل على اكتسابها من قيادته للحرس في الحرب العراقية، وتحول إلى معاون اقتصادي مهمش وبلا دور إلى جانب رئيس الجمهورية، كجائزة ترضية بعد انسحابه من السباق الرئاسي لمصلحة الرئيس الحالي.
في حين يمكن اعتبار عملية اغتيال قائد قوة القدس الجنرال قاسم سليماني في العراق في الثاني من فبراير (شباط) 2020 حدثاً مهماً صب في تعزيز هذا التوجه داخل صفوف قيادات الجيل التالي لحرس الثورة، لا سيما أن وجود سليماني لم يكن ليسهل عليهم مهمة الاستحواذ على السلطة والتحكم بمستقبل النظام والعملية السياسية.
ويمكن اعتبار هذه الخطوة التي توجت بإبعاد شمخاني آخر الحلقات الباقية على طريق الاستحواذ على السلطة والقرار في النظام ومؤسساته، من دون منازع أو الخوف من وجود منافس أو مصدر قلق وخطر، وهي أيضاً تشكل تتويجاً لمسار طويل استمر لنحو عقدين من جهود إسقاط كل القوى السياسية المحافظة غير المطواعة والإصلاحية والمعتدلة والوسطية، وهي القوى التي لا ترى نفسها مع الدستور وولاية الفقيه، إلا أنها تسعى إلى تعزيز الوجه الديمقراطي للجمهورية مع الحفاظ على البعد الإسلامي بعيداً من الطغيان.
وعلى رغم المهمة التي قام بها شمخاني على أكمل وجه، واستطاع فيها وبدعم مباشر من المرشد الأعلى إنهاء مرحلة طويلة من التوتر والتأزم سيطرت على العلاقات بين إيران والسعودية، وبالتالي التوقيع على الاتفاق التاريخي بين البلدين في العاشر من مارس (آذار) 2023، ونقل المنطقة إلى مرحلة جديدة من التعاون والتفاهم، واستكمله باتفاق شبيه مع دولة الإمارات العربية المتحدة وآخر مع الدولة العراقية، فقد يكون بمثابة مكافأة سياسية لمسار طويل تولى فيه مهمات صعبة ومعقدة في عدد من الملفات الإقليمية خلال وجوده في أمانة المجلس الأعلى للأمن القومي على مدى الأعوام الـ 10 الماضية، بخاصة في الملف العراقي وأزمة عام 2015 في رئاسة الوزراء، وحل عقدة عودة نوري المالكي لدورة ثالثة لرئاسة الحكومة والسلطة العراقية.
إلا أن ذلك لا يعني لدى المؤسسة العسكرية السماح لهذا الإنجاز بالتأثير في المسار الذي تسعى إلى تكريسه والوصول إليه، والمتعلق بمستقبل السلطة والنظام، وهي من أجل ذلك لا تريد أثقالاً سياسية قد تعوق أو تملك صوتاً متمايزاً يتسبب لها بالإرباك، ولا يسهل عملية الانتقال الذي تسعى إليه في مرحلة ترتيب الأوضاع في خلافة المرشد الحالي ومراكز القوى وتركيب السلطة، وأن تسييل وتحويل حال التهدئة والانتفاح الذي بدأ يتكرس نتيجة الاتفاق مع السعودية، من المفترض أن يشكل الأسس التي ستبني هذه الجماعة قواعدها السياسية عليها، وإظهار قدرتها على قيادة إيران وترجمة كل الجهود والاستثمارات التي وظفها النظام في الإقليم مع البرنامج النووي والسلاح الصاروخي وبناء قوة الردع إلى خطوات إنقاذية قادرة على ترميم الوضع الاقتصادي المأزوم، وبناء علاقات مع العالم في إطار الأسس التي تعتقد بها، فضلاً عن أنها ستكون قادرة على التعامل مع كل الأصوات الداخلية التي قد تعارض طموحاتها السياسية، وأن تكون الجهة التي تملك القدرة في لعب دور المقرر بانتخاب المرشد القادم وقيادة النظام.
وما يعزز هذا الاعتقاد أن الشخصية التي تم اختيارها لتكون خلفاً لشمخاني في أمانة المجلس الأعلى للأمن القومي الأدميرال علي أكبر أحمديان، وعلى رغم أنه عمل تحت إمرة شمخاني في القوات البحرية، إلا أنه يعتبر من الضباط المقربين من القائد السابق لحرس الثورة الجنرال محمد عزيز جعفر، أي مقرباً من حلقة السلطة والقرار التي نسجها الجيل الثاني من ضباط الحرس إلى جانب محمد باقر قاليباف الذي يترأس السلطة التشريعية حالياً.
اندبندت عربي