طموح الرئيس فلاديمير بوتين أكبر من قدرات روسيا، وإن كان مغرياً للروس. ورهانات الرئيس فولوديمير زيلينسكي أكبر من إمكانات أوكرانيا، وإن صارت أساسية بالنسبة إلى الأوكرانيين. فما اصطدمت به موسكو أخيراً هو ما كشف عنه الخبراء منذ الأسابيع الأولى للحرب، وفي مقدمتهم الخبير الإستراتيجي البريطاني لورنس فريدمان، “محدودية القوة العسكرية”.
احتاجت موسكو إلى عام وثلاثة أشهر لتعترف جزئياً بلسان المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف بأن “العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا صعبة جداً، وأن القوات الروسية نجحت جزئياً في إنجاز المهمة، ولكننا لا نزال بعيدين منها”. وأخذت أشهراً لتسيطر بقوة “فاغنر” على باخموت بثمن باهظ وبعد 15 شهراً.
وما دفعت كييف ثمنه دماً ودماراً هو الشعور الذي عبر عنه زيلينسكي بالقول، “أوكرانيا ولدت من جديد”. ولا مفاجأة في حاجة أوكرانيا إلى التوريد المستمر والمتزايد للسلاح الغربي من أجل الصمود في المعارك. المفاجأة هي انكشاف قوة روسيا كدولة كبرى تخطط لمواقع وأدوار على قمة العالم، وحاجتها إلى أسلحة من دول مثل إيران وكوريا الشمالية وجنوب أفريقيا، كما إلى مرتزقة “فاغنر”، لا بل إن روسيا “تطلق صواريخ وذخائر بأسرع من قدرة صناعاتها الدفاعية الخاضعة لعقوبات شديدة على تجديدها”، كما يرى هال براندز البروفيسور في كلية الدراسات المتقدمة في جامعة جونز هوبكنز.
لكن بوتين الذي أعلن منذ البدء أن “الهجوم على أوكرانيا هو مسألة حياة أو موت للأمة الروسية التي لم تخسر شيئاً ولن تخسر شيئاً” يقول في الاحتفال بعيد النصر على النازية في الحرب العالمية الثانية إن “روسيا داخلة في صراع وطني ضد استخدام أميركا وأوروبا لأوكرانيا من أجل إنهاء بلدنا ودماره”. وهو ينتقل من نفي وجود أوكرانيا ورواية تاريخها كما يريد إلى قراءة هجومه العسكري على أوكرانيا في كتاب معاكس للواقع. وليس ذلك بلا مبررات في الجيوبوليتيك الروسي. فما يراهن عليه بوتين هو المشروع الأوراسي الذي يتطلب إبعاد “الناتو”عن حدود روسيا.
وما يبحث عنه بوتين في أوكرانيا ليس “جائزة ترضية” من نوع التسليم بضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا وترتيب نوع من الحكم الذاتي في منطقة دونباس وكل منطقة يسكن فيها روس من أيام القياصرة أو من أيام السوفيات. فهو يريد من الغرب التسليم بأن تكون أوراسيا “منطقة سيطرة روسية”. ويعرف أنه “من دون أوكرانيا تبطل روسيا أن تكون إمبراطورية” كما قال البروفيسور زبيغنيف بريجنسكي لأنها ميزان الجزء الأوروبي من الاتحاد الروسي. وبكلام آخر، فإن أوكرانيا “جائزة إستراتيجية”، إذ هي “المفصل الذي يربط روسيا بقلب أوراسيا” بحسب البروفيسور هال براندز، لأن “أية قوة أوراسية يجب أن تمر في أوكرانيا”.
هالفورد ماكيندر هي “من يحكم أوروبا الشرقية يقود الهارتلاند، ومن يحكم الهارتلاند يقود جزيرة العالم، ومن يحكم جزيرة العالم يقود العالم”. مبالغة؟ ربما. غير أن القيصرة كاترين العظمى كانت تقول “لا أملك أية طريقة للدفاع عن حدودي سوى توسيعها”. وهذا هو المنطق عند بوتين الذي يدرك خطورة توسيع الحرب إلى خارج أوكرانيا وتصعيدها إلى المستوى النووي، فيرى الخيار الوحيد أمامه هو استخدام كل القوة الممكنة. وإذا كان النصر صعباً، فإن الهزيمة أصعب.
ومقابل من يرى أن موسكو خسرت الحرب بمقدار ما دمرت أوكرانيا وخسرت شعبها، هناك من يقول مثل ريتشارد وايتز مدير معهد التحليل السياسي العسكري في معهد هادسون إن “من السابق لأوانه القول إن روسيا انهزمت”.
قوة روسيا لها حدود، وتسليح الغرب لأوكرانيا له حدود أيضاً. فلا الصين تبدو راغبة في الدخول في الحرب إلى جانب روسيا، بصرف النظر عن مشروعها للسلام واستعدادها للتوسط. ولا “الناتو” الذي يؤمن لأوكرانيا كل لوازم الحرب على استعداد للدخول المباشر فيها. والحرب مستمرة.
يقال في موسكو إن بوتين يمارس “الحكم بالإشارة”. ويقال في عواصم الغرب إن الرئيس الروسي يتدخل في أبسط تفاصيل الحرب. وهي حربه التي جعلها حرب روسيا دفاعاً عن وجودها. وهي حرب الغرب الذي يريد في الحد الأدنى إضعاف روسيا بحيث تفقد القدرة على التدخل ثانية في خرائط الآخرين، لكن الغرب يدير المعارك على المكشوف إلى حد أنه يشرح الخطط العسكرية المفترضة على شاشات التلفزيون.
أما بوتين، فلا أحد يعرف ماذا يدور في رأسه، وسط التركيز على القصف الصاروخي والطائرات المسيّرة. وليس أخطر من الوضوح في إدارة المعارك سوى الغموض.
اندبندت عربي