التحالف الناشئ بين “حزب الله” وروسيا

التحالف الناشئ بين “حزب الله” وروسيا

على الرغم من أن الكثير لا يزال غير معروف عن المدى الكامل للتعاون بين “حزب الله” وروسيا، إلّا أن العقوبات الأمريكية كشفت عن علاقة متعددة الأوجه ومربحة بشكل متزايد لا ينبغي تجاهلها وسط أزمات أخرى.

على مدى السنوات القليلة الماضية، وسعت روسيا بهدوء نطاق نفوذها في لبنان، حيث سعت إلى تطوير علاقاتها الثقافية والاقتصادية والعسكرية في بيروت في إطار استراتيجية توسيع النفوذ الروسي في الشرق الأوسط، مع تهميش الولايات المتحدة وتعزيز دور موسكو كصانعة سلام. ولكن النزاع في أوكرانيا طغى على التوغل الروسي في لبنان، كما أن تحالف روسيا المتنامي مع “حزب الله” لم يحظ باهتمام كبير. ولكن القراءة الدقيقة لتصنيفات الحكومة الأمريكية المتعلقة بمخططات التمويل غير المشروع لإيران و”حزب الله” تكشف عن اتجاه واضح في التعاون الروسي في إطار هذه الأنشطة ودعمها.

التهرب من العقوبات

نشأ التحالف الروسي مع “حزب الله” نتيجة النزاع في سوريا، حيث قاتلت القوات الروسية و”حزب الله” جنباً إلى جنب في تحالف مع نظام الأسد. ولسنوات، اقتصر هذا التحالف على ما يبدو وبشكل صارم على النشاط العسكري في سوريا، ولكن في عام 2018، بدأ “حزب الله” وروسيا بالانخراط في أنشطة مشتركة غير مسبوقة للتهرب من العقوبات. وأظهر التغيير الصارخ في النشاط بين “حزب الله” وروسيا بوضوح أن تعاونهما قد تجاوز التحالف العسكري وأصبح الآن يتضمن بعداً اقتصادياً. وفي تشرين الثاني/نوفمبر 2018، كشفت وزارة الخزانة الأمريكية عن مخطط معقّد قائم على التجارة للتهرب من العقوبات المفروضة على تهريب النفط، يديره “حزب الله” و”فيلق القدس” التابع لـ “الحرس الثوري الإسلامي” الإيراني. وسمح هذا المخطط للنظام الإيراني بتحويل الأموال بالنيابة عن سوريا إلى شركة “برومسيريو إمبورت” (Promsyrioimport) الروسية المملوكة للدولة، مما مكّن روسيا من التهرب من العقوبات الأمريكية ضد نظام الأسد. وفي الوقت عينه، حوّل “مصرف سوريا المركزي” مبالغ نقدية إلى “حزب الله” و “حماس” و”فيلق القدس” التابع لـ “الحرس الثوري” بالنيابة عن النظام الإيراني. وتمحور هذا المخطط حول قناتين رئيسيتين هما مسؤول “حزب الله”، محمد قصير، والمواطن السوري المقيم في روسيا، محمد الشويكي. وأكد قصير (المعروف أيضاً بالحاج فادي) والشويكي، في رسالة إلى مسؤول كبير في “البنك المركزي الإيراني”، استلام 63 مليون دولار في إطار مخطط لمساعدة “حزب الله”.

ومنذ تعطل هذه الشبكة، فرضت وزارة الخزانة الأمريكية عقوبات على الكثير من الكيانات المتورطة في شبكة تهريب النفط التابعة لـ “حزب الله” و “فيلق القدس” التابع لـ “الحرس الثوري” الإيراني، التي تشهد تطوراً مستمراً ويقودها قصير ونظيراه الإيرانيان، بهنام شهرياري، المسؤول في “فيلق القدس”، ورستم قاسمي، المسؤول السابق في “فيلق القدس”، الذي توفي. ولكن أبرز جوانب هذه الشبكة للتهريب تشمل الضلوع الرسمي للحكومة الروسية.

وفي أيار/مايو 2022، أصدرت وزارة الخزانة الأمريكية تصنيفات تستهدف شبكة تهريب النفط ذاتها التابعة لـ “حزب الله” و “فيلق القدس” التابع لـ “الحرس الثوري” الإيراني، وأشارت إلى أن مخططات التهرب من هذه العقوبات التي كانت تمول كلاً من “حزب الله” و “فيلق القدس” كانت “مدعومة من قبل قيادات رفيعة المستوى في حكومة روسيا الاتحادية وأجهزة اقتصادية تديرها الدولة”. وفي معرض ذلك، كشفت وزارة الخزانة الأمريكية أنه منذ نيسان/إبريل 2021، استخدم المسؤول السابق في “فيلق القدس”، رستم قاسمي، شركة “آر بي بي” (RPP) المحدودة المسؤولية، التي تتخذ من روسيا مقراً لها، “لتحويل ملايين الدولارات من روسيا بالنيابة عن «فيلق القدس» التابع لـ «الحرس الثوري»”. وقد عمل المدير السابق للشركة، وهو دبلوماسي أفغاني سابق مقيم في موسكو، مع “قيادات رفيعة المستوى في الحكومة الروسية وجهاز المخابرات الروسي” لجمع الأموال لـ “فيلق القدس”. وعملت أيضاً الحكومة الروسية، وشركة “روسنفت” (Rosneft) الروسية المملوكة للدولة، مع عناصر أخرى من شبكة تهريب “فيلق القدس”، مثل “زمن أويل دي أم سي سي” (Zamanoil DMCC) ومقرها الإمارات العربية المتحدة، “لشحن كميات كبيرة من النفط الإيراني إلى شركات في أوروبا بالنيابة عن «فيلق القدس» التابع لـ «الحرس الثوري»”. وتَولّى إدارة جزء آخر من هذه الشبكة المسؤولان في “حزب الله” محمد قصير ومحمد قاسم البزال، اللذان استخدما شركة مقرها لبنان لتسهيل الصفقات النفطية لصالح “فيلق القدس” و”حزب الله”.

واستهدفت وزارة الخزانة الأمريكية المزيد من الكيانات المشاركة في التهرب من العقوبات المفروضة على بيع النفط لصالح “فيلق القدس” في كانون الأول/ديسمبر 2022، والتي شارك بعضها في اتفاقيات وعقود سلسلة التوريد مع الشركة الروسية “آر بي بي” (RPP) المحدودة المسؤولية، والتي تم تصنيفها قبل أشهر فقط، في أيار/مايو.

بالإضافة إلى ذلك، في تشرين الثاني/نوفمبر 2022، أصدرت وزارة الخزانة الأمريكية تصنيفات تستهدف “شبكة أخرى لشحن النفط تدعم «فيلق القدس» التابع لـ «الحرس الثوري» الإيراني و«حزب الله»“. وفي حين ربطت وزارة الخزانة الأمريكية بصراحة هذا الإجراء بالإجراء السابق في أيار/مايو، والذي استهدف مخططات مدعومة من الحكومة الروسية، إلّا أن الوزارة لم تحدد ما إذا كان للحكومة الروسية دور أيضاً في المخططات المستهدفة في تشرين الثاني/نوفمبر. ولكن تحليل هذه الأهداف يكشف أن بعض السفن على الأقل الخاضعة للعقوبات كجزء من المخطط الذي يخدم “حزب الله” و “فيلق القدس”، مثل زيفير 1 (Zephyr I) وجوليا إي (Julia A)، قد استُخدمت أيضاً لتهريب النفط الروسي. وهذا يعني أن الحكومة الروسية و”حزب الله”، إلى جانب “فيلق القدس”، قد استفادوا من بعض شبكات تهريب النفط ذاتها للتهرب من العقوبات. ولكن لم يتضح ما إذا كانت روسيا قد نسقت استخدامها لهذه الشبكات لتهريب النفط التابعة لجهات خارجية مع “حزب الله” و “فيلق القدس”. إلّا أن هذه التقنيات للتهرب من العقوبات لا تقوّض الجهود الأمريكية والدولية لمحاسبة روسيا على غزو أوكرانيا فحسب، بل تحقق أرباحاً مالية للجماعتين الإرهابيتين أيضاً.

تأثير القوة الناعمة

لا يقتصر المستوى المعزز من التنسيق بين روسيا و”حزب الله” على التهرب من العقوبات. ففي آذار/مارس 2021، أرسل “حزب الله” وفداً إلى موسكو، في ثاني زيارة “دبلوماسية” له إلى البلاد. وبخلاف زيارته الأولى قبل عقد من الزمن، التي كانت محاطة بالسرية مع غياب التغطية الإعلامية، حظيت هذه الزيارة بتغطية إعلامية واسعة. والتقى ممثلو “حزب الله”، خلال أيامهم الثلاثة في موسكو، بمختلف المسؤولين الروس، ومن بينهم وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، وممثلين عن “مجلس الدوما” و”مجلس الاتحاد”، وكذلك السفير الإيراني لدى روسيا، كاظم جلالي. ولكن ما لفت الانتباه على وجه الخصوص هو الاجتماع المطول الذي عقده الوفد مع نائب وزير الخارجية الروسي، ميخائيل بوغدانوف، الذي يشغل أيضاً منصب المبعوث الخاص لفلاديمير بوتين إلى الشرق الأوسط. وخلال هذه الاجتماعات نوقشت عدة مواضيع، بما في ذلك التنسيق بشأن “مشاريع” مختلفة. وبعد ثلاثة أشهر فقط من هذه الزيارة إلى موسكو، استقبل “حزب الله” السفير الروسي في لبنان ألكسندر روداكوف في بيروت لمناقشة التنسيق في مشاريع مشتركة.

وفي حين لم تتضح بعد ما هي المشاريع التي تعمل عليها روسيا و”حزب الله” معاً، إلّا أن تصنيف وزارة الخزانة الأمريكية للخبير الاقتصادي المقيم في لبنان حسن مقلّد في كانون الثاني/يناير 2023 يعطي فكرة عن بعض الاحتمالات. وتصف وزارة الخزانة في بيانها الصحفي مقلّد بأنه مستشار مالي لـ “حزب الله” ينفذ صفقات تجارية بالنيابة عن الجماعة ويمثل “حزب الله” في المفاوضات مع المستثمرين المحتملين والشركاء والمسؤولين الحكوميين الأجانب. كما تسلط وزارة الخزانة الضوء بوضوح على تواصل مقلّد مع روسيا بالنيابة عن “حزب الله”، مشيرةً إلى أنه نسق مجموعة واسعة من المشاريع مع مسؤول “حزب الله” محمد قصير، شملت صفقات تجارية تشارك فيها روسيا.

ومنذ عام 2021 على الأقل، انخرط مقلّد عن كثب مع مسؤولين روس، ورافق وفوداً روسية في اجتماعاتها في بيروت، واجتمع أيضاً في عدة مناسبات مع بوغدانوف. وعلى وجه التحديد، شارك مقلّد، مع مسؤولين لبنانيين وروس، في مفاوضات لتكليف شركة “هايدرو إنجنيرينغ آند كونستركشن” (Hydro Engineering and Construction) الروسية بإعادة بناء مصفاة الزهراني في جنوب لبنان الخاضع لسيطرة “حزب الله”، وهو مشروع تقدر قيمته بنحو 1.5 مليار دولار. وفي حين أن الشركة المذكورة مملوكة بالكامل لرجل الأعمال الروسي أندريه ميتزغر وفقاً لسجلات الضرائب الروسية، إلا أنها مدعومة من الحكومة الروسية. وفي الواقع، في حزيران/يونيو 2021، شارك ميتزغر في وفد زار لبنان بالنيابة عن الحكومة الروسية. ومن المثير للاهتمام أنه خلال اجتماع عُقد في بيروت في الشهر ذاته بين “حزب الله” والسفير الروسي في لبنان، نوقش أيضاً مشروع مرتبط بشركة “هايدرو إنجنيرينغ آند كونستركشن”. ووفقاً لسجلات الضرائب الروسية، تأسست الشركة في شباط/فبراير 2021، قبل شهر واحد فقط من زيارة وفد “حزب الله” إلى موسكو لبدء مناقشات حول التعاون في المشاريع الاستثمارية. ووفقاً لتقارير صحفية لبنانية، لم تكن رحلة حزيران/يونيو 2021 الزيارة الأولى للوفد الروسي إلى بيروت. ففي رحلة سابقة، أجرى الوفد ذاته وفقاً لما يُزعم مباحثات مع “مصرف لبنان المركزي” حول اهتمام روسيا بشراء مصرف في لبنان لتسهيل التحويلات المالية.

وفي حين أن مشاركة “حزب الله” في مشروع المصفاة الذي تبلغ تكلفته 1.5 مليار دولار لا تزال غير واضحة، إلّا أن الأمين العام لـ “حزب الله”، حسن نصر الله، أدلى العام الماضي بتصريح علني أظهر اهتمامه بالمشروع. وقد ندد نصر الله في بيان بالولايات المتحدة على خلفية تعطيلها مشروع مصفاة الزهراني، وذهب إلى حد القول بأنه “لو كان «حزب الله» يهيمن على قرارات الدولة اللبنانية، لكان العرض الروسي قد قُبل منذ عام ونصف”.

شراء الأسلحة

بالإضافة إلى تنسيق صفقات تجارية مرتبطة بروسيا، كشفت وزارة الخزانة الأمريكية أن مقلّد عمل أيضاً مع مسؤول “حزب الله” محمد قصير في الجهود المبذولة لمساعدة “حزب الله” في الحصول على أسلحة لاستخدامه الخاص. وفي الواقع، لا يضطلع قصير بدور بارز في تدبير الأموال لـ “حزب الله” فحسب، بل هو أيضاً رئيس وحدة “حزب الله” “المسؤولة عن تسهيل نقل الأسلحة والتكنولوجيا وغيرها من أشكال الدعم من سوريا إلى لبنان”. وقد كشفت التقارير العامة خلال العام الماضي أن وحدة الأسلحة التي يرأسها قصير والتي كانت تُعرف سابقاً بـ “الوحدة 108″، تُعرف اليوم بـ “الوحدة 4400” التابعة لـ «حزب الله».

ويتمتع قصير بمؤهلات فريدة تخوّله رئاسة وحدة حساسة ومهمة مثل “الوحدة 4400”. ويُزعم أن شقيقه، حسن، هو صهر الأمين العام لـ “حزب الله” حسن نصر الله، وأن شقيقه الآخر، أحمد قصير، كان الانتحاري التابع لـ “حزب الله” الذي نفذ هجوم تشرين الثاني/نوفمبر 1982 على مقر للجيش الإسرائيلي في صور. فقد وصف نصر الله أحمد، الذي تم الاعتراف به كأول شهيد لـ “حزب الله”، بأنه “أمير الشهداء” في حفل لمؤسسة الشهداء بمناسبة الذكرى السنوية للهجوم. وترقّى محمد قصير سريعاً داخل “حزب الله”، متسلحاً بإرث عائلته، وهو لا يزال أحد المقربين الموثوقين لنصر الله. وفي أيار/مايو 2018، صنفت وزارة الخزانة الأمريكية قصير على أنه “قناة حاسمة” يستخدمها “فيلق القدس” التابع لـ “الحرس الثوري” الإيراني لتمويل “حزب الله”.

وفي غضون ذلك، لم تتوقف اجتماعات حسن مقلّد مع المسؤولين الروس على الرغم من تصنيفه في كانون الثاني/يناير 2023. ففي أواخر آذار/مارس 2023، على سبيل المثال، سافر مقلّد إلى روسيا واجتمع مع نائب وزير الخارجية والمبعوث الخاص لبوتين إلى الشرق الأوسط، ميخائيل بوغدانوف، ومع نائب وزير الدفاع، ألكسندر فومين، أيضاً. ووفقاً لبيان لمقلّد عبر “تويتر”، تضمن الاجتماعان نقاشات حول تعزيز العلاقات بين لبنان وروسيا، لا سيما فيما يتعلق بالمشاريع الاقتصادية والاستثمارية الروسية. كما تخللتهما محادثات بشأن إقامة رحلات جوية مباشرة بين البلدين.

الخاتمة

في حين أن غموضاً كبيراً ما زال يكتنف مدى التعاون القائم بين “حزب الله” وروسيا ومدى استفادة الطرفَين منه، من الواضح بلا شك أن علاقتهما قد تطورت مع مرور الوقت وأصبحت الآن متعددة الأوجه ومفيدة للطرفين، وتتضمن عنصراً اقتصادياً مربحاً إلى حد كبير على ما يبدو. وبطبيعة الحال، لا ترتبط جميع الأنشطة الروسية في لبنان بـ “حزب الله”. ولكن تحالف روسيا مع “حزب الله” يوفر لها إمكانية الوصول والغطاء القوي لتوسيع نطاق تواجدها العام في لبنان، مع استفادة التنظيم الإرهابي منها أيضاً.

وتطرح المنافسة الاستراتيجية تهديداً مختلفاً عن التهديد الذي يطرحه الإرهاب، ولكن في حالة روسيا و”حزب الله”، يتداخل العنصران بشكل واضح، إذ يعزز كل منهما الآخر، ولا يستبعده. وقد يكون من السهل التقليل من شأن المنافسة أو التغاضي عنها، خصوصاً عندما تنطوي على توسيع النفوذ من خلال القوة الناعمة. وفي حالة لبنان، لن تستفيد روسيا وحدها من الوضع، بل أن تنظيم إرهابي كبير سيستفيد منه أيضاً. وفيما يتعلق بالتهديد الروسي الحالي، يركز العالم حالياً على النزاع في أوكرانيا. ففي حين أن هذا النزاع هو بالفعل التهديد الأكبر والأكثر إلحاحاً، إلا أنه يصرف الانتباه أيضاً عن توغل روسيا في الشرق الأوسط وتقويتها لتنظيم إرهابي كبير.

وفي هذا العصر القائم على المنافسة الاستراتيجية، تواجه الولايات المتحدة تهديداً متعدد الأقطاب، مع وجود خصوم مختلفين في مواقع مختلفة حول العالم، يستخدمون مجالات وحرفاً مختلفة، ولا تمتلك أي حكومة أو كيان من القطاع الخاص القدرة الكاملة على رصد التغيرات. لذلك، من الضروري أن تبقى الحكومة الأمريكية متيقظة وتستفيد من شراكاتها لتبقى قادرة على مراقبة مشهد التهديدات المتغير، حتى لا تخسر الولايات المتحدة وحلفاؤها المنافسة في منطقة معينة من العالم بينما يركزون على نزاع في منطقة أخرى.

معهد واشنطن