لماذا انزعجت أميركا من تكثيف التقارب الصيني – الروسي؟

لماذا انزعجت أميركا من تكثيف التقارب الصيني – الروسي؟

استضافت الصين أعلى مسؤول روسي منذ بدء الحرب في أوكرانيا العام الماضي، إذ بدت العلاقات بين القوتين أكثر تقارباً في وقت اشتدت فيه المواجهة مع الولايات المتحدة وحلفائها، فقد أشار الرئيس شي جينبينغ إلى المشاريع الجيوسياسية المشتركة، ورد رئيس الوزراء الروسي ميخائيل ميشوستين بأن حكومته مستعدة للعمل مع الصين لتعزيز تعدد الأقطاب في العالم، مما يشير إلى وجهة نظر موسكو وبكين المشتركة للولايات المتحدة باعتبارها قوة إمبراطورية مهيمنة وتصوير أميركا على أنها دولة متنمرة في الحرب الباردة لا تدرك أن العالم تغير، فكيف تنظر واشنطن لهذا التقارب الأخير وكيف ستتعامل معه؟

أسباب قلق واشنطن

في خروج عن الجهود التي بذلتها بكين للتقليل من تحالفها مع موسكو وفي الوقت الذي تسعى فيه للعب دور صانع السلام في أوكرانيا، تحركت الصين وروسيا لتوطيد شراكتهما من خلال اجتماعات رفيعة المستوى الأسبوع الماضي كان أبرزها لقاء الزعيم الصيني شي جينبينغ في بكين مع رئيس الوزراء الروسي ميخائيل ميشوستين، الذي قال إن بلادهما تواصل رفض جهود الغرب لتقييد علاقتهما للحفاظ على الهيمنة العالمية واستخدام العقوبات غير القانونية لفرض إرادتها على الدول المستقلة، وأن العلاقة مع الصين وصلت إلى مستوى عالٍ غير مسبوق، وفق ما نقلت وكالة الأنباء الروسية الرسمية “تاس”، في حين أكد جينبينغ أن بلاده ستواصل تقديم الدعم الثابت والمتبادل لروسيا.

ولم تكن التصريحات الصينية والروسية فقط ما أثار قلق واشنطن والغرب، إذ كانت زيارة رئيس الاستخبارات الصينية تشين وينكينغ إلى موسكو سبباً آخر للقلق، كونه أجرى محادثات مع أمين مجلس الأمن الروسي نيكولاي باتروشيف، وهو أحد المستشارين المقربين للرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

أظهرت رحلة تشين، الذي وصفته صحيفة “وول ستريت جورنال” بقيصر الأمن الصيني، أن العلاقات بين البلدين تتوسع في مجالات خارج نطاق التجارة، ووفقاً لمجلس الأمن الروسي، فقد ناقش تشين تبادل المعلومات الاستخباراتية المالية وخطط التعاون بين الشرطة شبه العسكرية الصينية والحرس الوطني الروسي في اجتماعه مع باتروشيف. وعلاوة على ذلك، فإن المصطلحات التي تنقل وجهة نظر موسكو وبكين المشتركة عن الولايات المتحدة باعتبارها قوة إمبراطورية مهيمنة، ودولة متنمرة لا تدرك أن العالم تغير كان مثيراً لانزعاج الأميركيين.

كتب أندريه كورتونوف المدير العام لمجلس الشؤون الدولية الروسي، وهو مؤسسة فكرية روسية تمولها الدولة ومقربة من وزارة الخارجية، في صحيفة “غلوبال تايمز” الحكومية الصينية، أن إدارة بايدن تبدو ملتزمة بتعهد يعيد البشرية إلى العالم أحادي القطب الذي كان موجوداً بعد نهاية الحرب الباردة منذ نحو 30 عاماً، لكن البيت الأبيض لم يعد لديه الموارد الكافية للحفاظ على مثل هذا التعهد، وكما يقولون في أميركا “لا يمكنك الحصول على شمبانيا بميزانية بيرة”، على حد قول كورتونوف.

في مرمى النيران

ويعتبر محللون غربيون أن سلوك الصين تحديداً يعكس غضبها من قمة مجموعة السبع في اليابان، الأسبوع الماضي، حيث ناقش الرئيس بايدن وقادة المملكة المتحدة وألمانيا وفرنسا وإيطاليا وكندا واليابان خططاً لمواجهة ما وصفوه “بتكتيكات التخويف الصينية” الاقتصادية والسياسية والعسكرية، إلى جانب الدعم الكامل لأوكرانيا ووجود الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في القمة، مما بدا معه أن مجموعة الدول السبع، تضع موسكو وبكين في مرمى النيران، ولهذا وحدت بكين وموسكو قواهما في انتقاد موقف مجموعة السبعة، حيث وصفت وزارة الخارجية الروسية المجموعة بـأنها “حاضنة” تحت قيادة أنغلو ساكسونية، تفرز مبادرات مدمرة وتفسد الاستقرار العالمي.

وبحسب مدير برنامج آسيا والمحيط الهادئ في مركز أبحاث تشاتام هاوس البريطاني، بن بلاند، فإن قمة اليابان أكدت تعميق الانقسام الجيوسياسي بين الصين وروسيا من جهة والولايات المتحدة وحلفائها من أخرى. كما اعتبر المحاضر البارز في جامعة نيو ساوث ويلز في أستراليا، ألكسندر كوروليف لصحيفة “نيويورك تايمز”، أن الصين مستعدة لمضاعفة علاقتها مع روسيا بعد قمة مجموعة السبع لأن الموضوع الرئيس لتلك القمة لم يشمل فقط الهجوم الروسي لأوكرانيا، ولكن أيضاً الصين وكيف يجب أن يتعامل الغرب معها.

ومع ذلك، يفسر البعض الموقف الصيني بالغموض بعدما اتخذت بكين خطوات مبدئية نحو التقارب مع واشنطن، حيث من المنتظر أن تتيح سلسلة من الاجتماعات في الأسابيع القليلة المقبلة فرصة لاستعادة الاتصالات رفيعة المستوى مع واشنطن، والتي خرجت عن مسارها بسبب منطاد صيني في وقت سابق من هذا العام.

كما حاولت الصين التقليل من أهمية نطاق علاقاتها مع روسيا خلال الأسابيع الأخيرة حينما واجهت شكوكاً حول قدرتها على التوسط في حل أزمة الحرب في أوكرانيا، وأشار دبلوماسيون صينيون إلى أن الشراكة “بلا حدود” التي أعلنها الرئيسان شي وبوتين في أوائل عام 2022، قبل وقت قصير من هجوم روسيا على أوكرانيا، يمكن أن تنطبق بسهولة على دول أخرى.

منافسة وجودية

في الوقت نفسه، أوضح الرئيس الأميركي جو بايدن أنه يتوقع ذوبان الجليد قريباً بين واشنطن وبكين مع زيادة الاتصالات الدبلوماسية أخيراً، على رغم من أن المحللين اعتبروا أن العلاقة بين البلدين لا تزال حساسة.

في السياق يرى أستاذ العلوم السياسية في جامعة سنغافورة الوطنية تشونغ إيان، أن غموض القادة الصينية يجعل من الصعب تبديد الشكوك حيال واشنطن، إذ من غير الواضح ما إذا كانت الصين ترى حدوداً للعلاقة التي بلا حدود مع روسيا.

كما ذهب مدير مركز كارنيغي لشؤون أوراسيا ألكسندر غابيف إلى أن المواجهة بين روسيا والصين مع الولايات المتحدة وحلفائها تغذي التقارب المستمر بينهما، مشيراً إلى أن الأمور لا تتحسن نظراً إلى أنه ليس صراعاً مفتوحاً، ولكنه في الحقيقة منافسة وجودية تجد فيها كل من روسيا والصين نفسيهما في القارب نفسه، لكن بمستويات مختلفة من الشدة.

ولهذا السبب، كانت الصين مصدراً مهماً لدعم الاقتصاد الروسي المتضرر من العقوبات الغربية، وهو ما اعترف به ميشوستين أثناء حديثه إلى منتدى الأعمال الروسي الصيني في شنغهاي، حيث توقع أن تتجاوز التجارة بين البلدين، التي بلغت 189 مليار دولار العام الماضي، 200 مليار دولار هذا العام، أي قبل عام من هدف 2024 الذي حدده البلدان في 2019، كما قفزت التجارة البينية بقطاع الزراعة 42 في المئة العام الماضي، و90 في المئة خلال الربع الأول من هذا العام، ومن المتوقع أن ترتفع شحنات الطاقة الروسية إلى الصين بنسبة 40 في المئة هذا العام أيضاً.

رسالة بكين

وفيما سعت بكين لتعزيز جهودها الدبلوماسية بإرسال مبعوثها الخاص “لي هوي” لأوروبا للترويج لمبادرة سلام في أوكرانيا وتصوير الصين على أنها صديقة للجميع في أوروبا، إلا أنه لا توجد توقعات تذكر في شأن أي محادثات ناجحة حتى انتهاء الهجوم الأوكراني المضاد المتوقع في نهاية الربيع أو بداية الصيف، لكن في غضون ذلك قد تواصل بكين سعيها لدفع مؤيدي أوكرانيا إلى قبول إنهاء تفاوضي للقتال.

ويبدو أن الشيء المشترك بين رحلات “لي هوي” حول أوروبا وزيارة رئيس الوزراء الروسي ميشوستين إلى الصين هو أن بكين تحاول الإشارة إلى أن روسيا لن تنهار، وأنه على أوكرانيا والغرب أن ينظرا في كيفية التسوية معها لإيجاد نهاية تفاوضية للحرب، وفقاً لما يقوله مدير البرامج في معهد أوروبا الوسطى للدراسات الآسيوية ريتشارد كيو توركساني الذي يعتقد أن أوكرانيا ليست مهتمة بحل سلمي في الوقت الراهن.

ارتياب متزايد

غير أن الصين كانت غاضبة بشكل خاص من اليابان، التي لعبت دور الدولة المضيفة لمجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى، وهي تعيد صياغة دستورها السلمي بعد الحرب العالمية الثانية آخذة في الاعتبار التهديد الصيني المتصور، بينما أشارت أنباء أن حلف الناتو المصمم على احتواء وإحباط طموحات الكرملين يخطط لفتح مكتب اتصال في طوكيو مما زاد من حدة غضب بكين.

وفيما يحذر المسؤولون والمحللون الصينيون صراحة من تحول حلف شمال الأطلسي إلى منطقة آسيا والمحيط الهادئ لتعزيز التعاون الأمني والتنسيق بين مجموعة من القوى الإقليمية الآسيوية والولايات المتحدة، يرى الباحث في شؤون الصين وروسيا بمركز أبحاث أولويات الدفاع لايل غولدشتاين، أن مشاركة “الناتو” في آسيا تغذي جنون الارتياب المحتمل في الصين وتخدم أجندة روسيا في التقريب بين البلدين.

مفارقة مربكة

لكن المفارقة التي يبدو أنها تربك حسابات البعض أنه على رغم من احتضان واشنطن لمنافسة القوى العظمى في موسكو وبكين، فإن الصين وروسيا ليستا حلفاء قويين بحسب ما يقول غولدشتاين الذي أجرى أخيراً مهمة بحثية في الصين، تضمنت مقابلات مع عديد من الخبراء الصينيين بالشؤون الدولية في عديد من المؤسسات البحثية الرائدة التي تركز على السياسات، وكان الانطباع الذي توصل إليه غولدشتاين عن وجهة النظر الصينية أن هناك انطباعاً متشائماً أصاب عديد من محاوريه الصينيين بخيبة أمل، إذ إنهم فوجئوا بالهجوم الروسي على أوكرانيا، لكنهم أدركوا أيضاً أن الفشل الروسي التام وانهيار نظام بوتين قد لا يكون في مصلحة الصين.

وفي حين أن روسيا، التي تعاني ضغوط العقوبات الغربية تريد أن تفي بصداقتها المفترضة “بلا حدود” مع بكين، يتحدث المسؤولون والمحللون الصينيون عن العلاقات بين البلدين على أنها ليست تحالفاً كاملاً، وأن الصين أبقت روسيا على مدار الحرب في أوكرانيا على بعد ذراع منها ولن ترسل أسلحة مكتملة لدعم آلة الحرب الروسية المنهكة بشدة.

ويرى غولدشتاين أن الصين تتصرف بقدر من ضبط النفس والاعتدال، وأن هذا لا يحظى بالتقدير الواجب في الغرب، ولهذا قد يتلاشى ضبط النفس هذا مع تصاعد التوترات مع الغرب، أو إذا أحرزت أوكرانيا تقدماً كبيراً في الهجوم المضاد على الأراضي التي خسرتها.

تحول تاريخي

ويرى مراقبون في واشنطن أنه في أعقاب الهجوم الروسي على أوكرانيا كان على موسكو أن تتعامل بصفتها الشريك الأصغر بالنسبة للصين، كونها اعتمدت على المشترين الصينيين لمواردها الطبيعية، والسوق الصينية للحصول على قائمة من السلع التكنولوجية المتقدمة، الأمر الذي يعد تحولاً تاريخياً غير مريح قد يؤدي إلى ديناميكيات جديدة مقلقة.

وخلال الشهر الماضي قال ألكسندر جابيف في مجلة “فورين أفيرز”، إن حجم روسيا وقوتها قد يمنح الكرملين إحساساً زائفاً بالأمن لأنه يحبس نفسه في علاقة غير متكافئة مع بكين، لكن استمرارية هذه العلاقة سيعتمد على قدرة الصين على إدارة ضعف روسيا، وفي السنوات المقبلة سيتعين على الرئيس بوتين أن يتعلم المهارة التي يعتمد عليها الشركاء الصغار في جميع أنحاء العالم للبقاء على قيد الحياة، وهي كيفية إدارة التصعيد في العلاقة مع الشريك الأكبر.

مهادنة أم مهاجمة الصين؟

لكن في ظل تكثيف العلاقة بين بكين وموسكو، تجد إدارة بايدن التي توقعت ذوبان الجليد مع الصين قريباً أنها في موقف صعب، فقد تجنبت الإدارة مهاجمة الصين مراراً في أكثر من منعطف على رغم أن سياسات واشنطن واضحة جداً بأن الصين هي خصم جيوسياسي لأميركا، ويقول روبي غرامر في موقع “فورين بوليسي”، إن سياسات فريق بايدن لمواجهة النفوذ الجيوسياسي المتزايد للصين على المسرح العالمي، تؤكد في كل مرة أن الأمر لا يتعلق بالتنافس مع بكين، بما في ذلك قمة قادة الولايات المتحدة وأفريقيا التي جرت خلال ديسمبر (كانون الأول) الماضي، وقمة أميركا مع قادة أميركا اللاتينية في 2022، وأخيراً في قمة اليابان أو مع عدم قيام إدارة بايدن برفض جهود الصين للعمل على تسوية سلمية في أوكرانيا.

وعلى رغم أن تفكير مسؤولي إدارة بايدن، يذهب إلى أنه إذا حاولت واشنطن إجبار الدول الأخرى على اختيار جانب من الصراع مع الصين، فلن يؤدي ذلك إلا إلى نتائج عكسية كما يشير الباحث في السياسة الخارجية بالمجلس الأطلسي “آش جين”، إذ يرى أن هناك توازناً يتعين على الولايات المتحدة أن تحققه هنا، وهو أن دفع الدول بشدة لاتخاذ موقف مساند لأميركا قد يؤدي إلى تنفيرها أو دفعها إلى أحضان الصين، وهذا في حد ذاته يعد تحولاً صارخاً عن سياسة الحرب الباردة عندما كانت الولايات المتحدة أكثر صراحة في مواجهة السوفيات.

ومع ذلك، من المرجح أن يؤدي التنافس مع الخصوم السياسيين قبل دورة الانتخابات الرئاسية الأميركية لعام 2024 إلى تحول في رسائل الرئيس بايدن إلى الصين أو القادة الأجانب في الخارج بصفة عامة، بخاصة أن كبار المتنافسين الجمهوريين على الرئاسة يعملون على صقل أوراق اعتمادهم في السياسة الخارجية من خلال انتقاد الصين، كما أظهر حاكم فلوريدا رون ديسانتيس وحاكم فيرجينيا غلين يونغكين في رحلتهما الأخيرة المنفصلة إلى آسيا.

اندبندت عربي