أعلنت الهيئة العليا للانتخابات في تركيا امس الأحد تصدّر رجب طيب اردوغان، مرشح «تحالف الجمهور» وزعيم حزب «العدالة والتنمية» جولة الإعادة، مما يعني انتخابه مجددا رئيسا لتركيا حتى عام 2028، وذلك بعد 21 عاما سابقة قضاها في السلطة، بصفة رئيس وزراء أولا، وبصفة رئيس جمهورية ثانيا، وبالتالي خسارة خصمه، كمال كليتشدار أوغلو، زعيم «تحالف الأمة» السباق الانتخابي.
يمكن اعتبار الانتخابات التركية الأخيرة تاريخية على أكثر من صعيد، ومن ذلك أنها المرة الأولى في تاريخ تركيا المعاصر التي تجري فيها جولة إعادة لانتخاب رئيس، وأن تكون نسبة المشاركة في التصويت قرابة 90٪ من أعداد الناخبين، وهو دليل على حماس المواطنين لممارسة حقهم في اختيار الرئيس.
يضاف إلى ذلك أن تداعيات هذه العملية الانتخابية على الخصمين المتنافسين، ستكون كبيرة، ففوز اردوغان يعني استمرارا للسياق الذي عاشته تركيا خلال العقدين الماضيين، سياسيا واقتصاديا، واستكمالا لمعادلات التوازن الإقليمية والعالمية التي اشتغل عليها اردوغان وحزبه، فيما تعني خسارة كليتشدار أوغلو، اقتراب نهاية مسيرته السياسية، وظهور منافسين له على رئاسة الحزب الأتاتوركي، وما قد تحمله هذه الدينامية من تغييرات على وجه المعارضة التركية.
انخفض، في الانتخابات الأخيرة، مفعول وقائع اعتقدت أحزاب المعارضة أنها ستحدث دفعة لصالحها وأنها ستخصم من رصيد اردوغان وتحالفه لدى الأتراك، وهي تداعيات الزلزال والتضخم وتراجع سعر العملة، ولكن الذي حصل كان مفاجئا بكل المقاييس، لأن المناطق التي أصابه الزلزال صوّتت لصالح اردوغان وحزبه، فيما لم تعط نسبة كبيرة من الناخبين أولوية للاقتصاد على السياسة.
مقابل تراجع أولوية القضايا الاقتصادية وتداعيات الزلزال فقد اتجهت حدة الاستقطاب الانتخابي إلى استثمار هائل في المشاعر القوميّة للأتراك، وقد انعكس ذلك، بشكل سلبيّ، على اللاجئين، وخصوصا السوريين، فصاروا موضوع دعاية مركزة لتيّارات اليمين القومي المتطرّف، التي استخدمت خطابا شديد العنصرية والعداء.
دفعت نتائج الجولة الأولى من السباق الرئاسي، زعيم المعارضة كليتشدار أوغلو، للتعلّق بأهداب اليمين القومي المتطرّف المذكور، بعد أن أعلن زعيم «حزب الظفر» أوميت أوزداغ دعمه، آملا أن يساعده ذلك في حصد مزيد من الأصوات، فتعهد بطرد السوريين من البلاد بالقوة خلال سنتين، والاتفاق مع رئيس النظام السوري بشار الأسد، وإخراج الجيش التركي من سوريا، وهي خطوة يمكن اعتبارها طريقة لموازنة الانتقادات التي تعرض لها كليتشدار أوغلو نتيجة إعلان حزب «الشعوب الديمقراطي» الكرديّ دعمه له ومعارضته لانتخاب اردوغان.
سبب مهم آخر لاعتبار هذه الانتخابات «تاريخية» هو أن التاريخ التركيّ حاضر فيها بقوة، فالناخبون الأتراك، الذين صوّتوا لاردوغان وكليتشدار أوغلو، صوّتوا أيضا على رؤيتين، تستند الأولى إلى احتفاء بالتاريخ العثمانيّ ودلالاته السياسية التي تصبو إلى حضور تركيا مجددا في التاريخ كقوة عالمية، وتستند الثانية أيضا إلى احتفاء بتاريخ كمال مصطفى (أتاتورك) الذي يعتبر صانع الجمهورية التركية الحديثة، والشخص المسؤول عن إلغاء الخلافة، والمدافع الشديد عن نسخة صلبة من العلمانية، وعن التخلّي عن الثقافة الإسلامية، غير أن هذا التاريخ، في ذاكرة كثير من الأتراك، يرتبط أيضا بتعسّف هائل في التعامل مع الماضي والهوية والدين، كما بتدخّل الجيش والانقلابات العسكرية والبؤس الكبير الذي عاشته تركيا قبل عهد اردوغان.
بانتخابهم اردوغان مجددا صوّت الأتراك، عمليا، لتاريخهم القومي ولقضايا الثقافة والهوية، كما للاتجاه القومي والوطني والأولويات الاستراتيجية وليس فقط للكاريزما السياسية لاردوغان، أما تحالف المعارضة، فخسر رهانه الكبير، وإضافة إلى الأذى الذي أدركه من التحالف مع «الشعوب الديمقراطي» الذي يعتبره كثيرون قناعا لحزب العمال الكردستاني الذي خاض صراعا عنيفا مستمرا مع السلطات التركية المتعاقبة، فقد كان الهبوط من الدفاع عن العلمانية إلى التحالف مع حزب عنصريّ ضربة أخرى لسرديّته التي تزعم العلاقة مع الغرب والدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان.
القدس العربي