التعويل المتزايد على الشركات الأمنية يدفع للتساؤل ما إذا كانت الدول تتجه نحو التخلي عن الاعتماد على الجيوش في خوض الحروب، خاصة وأن هذه الشركات تؤدي المهمة دون قيود داخلية وبلا تتبعات جنائية دولية.
لندن – قفزت الشركات الأمنية مجددا إلى واجهة الأحداث العالمية بعد سيطرة شركة فاغنر الروسية على مدينة باخموت الأوكرانية، في مواجهة جيش نظامي، ما يدعو إلى التساؤل حول الدور الذي تلعبه هذه الشركات، وما إذا كنا نتجه نحو خصخصة الحروب، وتراجع مهام الجيوش في النزاعات الدولية، وانعكاسات ذلك على حقوق الإنسان والمساءلة القانونية.
الشركات الأمنية والعسكرية، وإن ظهرت لأول مرة بعد الحرب العالمية الثانية، إلا أن جذورها قديمة ومرتبطة بعصابات المرتزقة، التي يدفع لها المال مقابل القيام بعمليات عسكرية مثل الاغتيالات وقطع الطرق وحماية القوافل والشخصيات المهمة، والمشاركة في الحروب.
فعدة دول وإمبراطوريات عبر التاريخ جندت مرتزقة بل كانت لها فرق عسكرية من المرتزقة على غرار الإمبراطورية الرومانية، التي كان أحد أسباب سقوطها اعتمادها بشكل أكبر على فرق المرتزقة وتقاعس شبابها عن الانخراط في الجيش والمشاركة في القتال.
وإلى اليوم مازالت فرنسا تحتفظ بالفيلق الأجنبي (اللفيف الأجنبي)، الذي تأسس في 1831، من عناصر في غالبيتها أجنبية بهدف التوسع في استعمار الجزائر ومنها إلى مختلف أرجاء القارة الأفريقية، نتيجة لمنع الأجانب من الخدمة في الجيش الفرنسي بعد ثورة يوليو 1830.
الشركات الأمنية والعسكرية يقودها عادة ضباط محترفون خارج الخدمة، ويتميزون بكفاءة عالية في أداء المهام الموكلة لهم
لكن صفة “الارتزاق”، ذات المدلول الشنيع، يتم إعادة تجميلها تحت مسميات جديدة ذات طبيعة تجارية مقابل خدمات أمنية أو عسكرية، ومازال الجدل قائما بشأن ما مدى شرعيتها ومشروعيتها.
ورغم أن “الاتفاقية الدولية لمناهضة تجنيد المرتزقة واستخدامهم وتمويلهم وتدريبهم”، الموقعة في 1990، تجرم ظاهرة المرتزقة، إلا أن عدة دول قننت إنشاء شركات أمنية وعسكرية على غرار الولايات المتحدة، بينما سمحت أخرى بنشاطها رغم أن القانون يجرّمها، مثل وضعية شركة فاغنر في روسيا.
وأول ظهور لشركة أمنية في العالم كان بالولايات المتحدة في 1946، وفق دراسة للدكتور بجامعة الجزائر ياسين طالب، حيث أسسها محاربون قدامى، وأطلقوا عليها اسم ”داين كورب‟.
وفي الستينات، أسس العقيد البريطاني ديفيد ستيرلينغ، شركة أمنية تحت اسم “ووتش غارد أنترناشيونال”، والتي قدمت خدماتها لبعض دول الخليج، وفق الأكاديمي الجزائري.
ولعل أشهر مثال على دور المرتزقة في النصف الثاني من القرن العشرين، ما قام به المرتزق الفرنسي بوب دينار (واسمه الحقيقي جيلبير بورجيو (1929 – 2007))، الذي عمل لحساب عدة دول سواء لفرنسا وبلجيكا خلال فترة الاستعمار لدول أفريقية، وللاستخبارات الأميركية والبريطانية خلال الحرب الباردة، وخدم في إيران زمن الشاه، وفي اليمن في عهد الإمامية.
وفي الثمانينات والتسعينات قاد بوب دينار مجموعة من المرتزقة للإطاحة بالحكم في بنين وجزر القمر، ونجح في إحدى المحاولات في إيصال أحمد عبدالله عبدالرحمن إلى رئاسة جزر القمر في انقلاب عسكري، وبفضل هذا النجاح عين قائدا للحرس الوطني.
لكن المجموعة التي كان يقودها بوب دينار من المرتزقة، والتي كانت تعرض خدماتها الأمنية والعسكرية على من يطلبها، لم يكن لها هيكل قانوني، ولم تعترف بها أيّ حكومة بشكل رسمي.
غير أن شهرة الشركات الأمنية برزت بعد احتلال العراق في عام 2003، ودورها في حماية شخصيات ومنشآت مدنية وعسكرية مقابل عقود بالمليارات من الدولارات دفعتها الإدارة الأميركية لهذه الشركات على غرار “بلاك ووتر”.
إلا أن سمعة بلاك ووتر، تشوهت بعد ارتكابها لمجازر وتجاوزات في حق مدنيين عزل، على غرار مجزرة النسور في بغداد عام 2007، التي وصفت بأنها “حفلة قتل”، سقط خلالها 17 مدنيا.
إحدى الأسباب الرئيسية التي تلجأ فيها بعض الدول والجيوش إلى الشركات الأمنية والعسكرية أنها لا تحتكم لضوابط القانون الدولي، ويمكن التبرؤ منها في حال تورطت في جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية دون أن يلقى اللوم على الجيوش النظامية.
كما أن الشركات الأمنية والعسكرية يقودها عادة ضباط محترفون خارج الخدمة، ويتميزون بكفاءة عالية في أداء المهام الموكلة لهم، ومتحررون من القيود البيروقراطية التي تميز الجيوش النظامية، ويمكنهم العمل خارج بلدانهم.
ويعتمدون نسقا عسكريا مرنا ومتحركا يشبه حرب العصابات، على عكس الجيوش النظامية التي تميل إلى مسك الأرض والتمترس حولها والدفاع عنها خلف قواعد ونقاط تمركز ثابتة، يسهل تحديدها واستهدافها.
300 ألف شركة أمنية حول العالم ينظر لها بالكثير من الارتياب
غير أن ما يميز عمل الشركات الأمنية عن المرتزقة بالمفهوم التقليدي، أنهم يعملون بالتنسيق مع حكومات وجيوش نظامية أو مع مجموعات مسلحة وميليشيات تتوافق مع مصالح بلدانهم.
لكن من الانتقادات التي توجه إلى الشركات الأمنية أن عناصرها يتبعون صاحب الشركة، وليس الدولة، ولا يحكمهم قانون عسكري، ولا تدرج في الرتب، ما يجعل السيطرة عليهم أمرا ليس سهلا، ويبدون أكثر شراسة وعنفا من أجل تحقيق أهدافهم، في غياب قانون صريح يردعهم.
وأحيانا تكون لعناصر هذه الشركات حصانة في البلدان التي تستعين بخدماتهم، ما يجعلهم أكثر جرأة في انتهاك حقوق الإنسان، واستخدام العنف حتى ضد المدنيين وبشكل عشوائي، مثلما حدث في بلدة مورا بمالي، عندما قتل مرتزقة فاغنر ما بين 200 إلى 600 رجل وصبي، وفق إعلام غربي نقلا عن شهود عيان. ومثل هذه الجرائم يمكن متابعة مرتكبيها دون أن يتحمل الجيش الروسي مسؤوليتها.
وحتى عندما قصف الجيش الأميركي عناصر فاغنر في سوريا بعد استهداف أحد مواقعه في البلاد، وقتل العشرات منهم، تبرأت روسيا منهم، وإلا كانت ستجبر على الرد، وقد يؤدي ذلك إلى اندلاع مواجهة عسكرية مباشرة مع الولايات المتحدة قد تتطور إلى حرب نووية.
ناهيك أن الخسائر البشرية في صفوف الجيش من شأنها إحباط معنويات الشعب، وقد يدفع عائلات الجنود القتلى أو في ساحات المعارك للمطالبة بإنهاء الحرب بأيّ ثمن مثلما حدث مع الأميركيين في حرب فيتنام.
لكن اللجوء إلى الشركات الأمنية والمرتزقة الأجانب والمساجين يخفف من الآثار النفسية للحرب على الرأي العام، ويقلص من الخسائر الرسمية للجنود، حتى وإن كانت كبيرة في صفوف عناصر الشركات الأمنية، والتي لا يتم الإعلان عنها، على غرار ما حدث في حرب العراق.
وتصاعد الأدوار التي تؤديها الشركات الأمنية والعسكرية خاصة في فترات النزاعات والحروب، يجعلها جهة منافسة بل موازية للجيوش النظامية، إن لم تكن الجهة الفاعلة والحيوية في الحروب.
وهذا الوضع من شأنه أن يحول الجيوش النظامية إلى هيئات بيروقراطية يقتصر دورها على توفير الدعم اللوجيستي للشركات الخاصة مثل المؤن والأسلحة والذخائر وتوفير الأموال والمرتبات.
ولم تصل الشركات الخاصة بعد إلى مرحلة امتلاك سلاح جوي وبحري متكامل، لكن هذه المسائل في تطور، فشركة فاغنر في ليبيا تمتلك طائرات مسيّرة، ومنظومات للدفاع الجوي من نوع بانتسير، بل تم إسقاط مروحية حربية وعلى متنها عناصر من فاغنر وسط الصحراء الليبية عام 2020.
فالشركات الأمنية توشك أن تتحول إلى جيوش صغيرة مرنة وسريعة وأكثر فاعلية في تحقيق النصر من الجيوش التقليدية، باستعانتها بضباط وخبراء عسكريين وفنيين سابقين، لكن ذلك من شأنه أن يجعلها تتغول على الدولة، لحساب فرد أو لوبيات معينة، إذا تعارضت مصالحها مع سياسة الدولة.
وخير مثال على ذلك مجموعة مرتزقة بوب دينار، ساعدت أحمد عبدالرحمن للعودة إلى السلطة في انقلاب عسكري بجزر القمر عام 1978، ثم قتلته عندما حل الحرس الرئاسي في 1989، الذي كان يقوده المرتزق الفرنسي.
لذلك ما زال ينظر إلى الشركات الأمنية بالكثير من الارتياب، رغم أنها توسعت في الأعوام الأخيرة ليفوق عددها 300 ألف شركة حول العالم، مع اختلاف حجمها ومهامها، ولكن ما يجمعها أنها تقدم خدمات أمنية وعسكرية مقابل عقود كأيّ شركة تجارية.
العرب